- ادم ريحان كوركيسعضو شرف دائم
فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية
الأحد مايو 20, 2012 1:26 pm
فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية
كتب : أسامة فوزي
التقيت خلال زيارتي الاخير لمدينة لندن بالزميلة الدكتورة غادة حيدر الصحافية السابقة في مجلة سوراقيا اللندنية والتي اعتمد عليها غسان زكريا صاحب المجلة في مطلع الثمانينات في كتابة اكثر المقالات فضائحية في مجلته والتي اكسبت المجلة انذاك هويتها كمجلة فضائح تعتمد على الابتزاز بدرجة اساسية ... ولشدة دهشتي قدمت لي غادة حيدر نسخة من كتابها الجديد " اللي استحوا ماتوا ... فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية " الذي صدر في لندن عن دار زوراكيا للنشر وهي دار قالت غادة انها أسستها في العاصمة البريطانية مؤخرا .
تتصدر غلاف الكتاب رسمة لغسان زكريا وهو يضع قبعة امريكية على راس ابنته أور نينا ... وقد سألت غادة حيدر عن مغزى هذه الرسمة وهذا الغلاف فقالت ان الغلاف يلخص مسيرة غسان زكريا الصحافية والتي تقوم على حد قولها على ثلاثة محاور هي : الابتزاز والتجسس والتجارة والهتك بالاعراض ... وتقول ان معظم القضايا التي رفعت على غسان زكريا في المحاكم واخرها القضية التي رفعها وربحها الصحافي جهاد الخازن الذي اتهمه غسان زكريا بالقوادة للامير خالد بن سلطان .... وتضيف غادة التي كانت صديقة مقربة من أورنينا بحكم عملها مع ابيها غسان ان صور اورنينا نشرت في مجلة سوراقيا بسبب وبدون سبب اكثر من صور صاحب المجلة نفسه ... وقالت ان اصرار غسان انذاك على نشر صور بناته وزوجته ليلى في المجلة دون سبب يذكر كان من بين اسباب الخلاف الذي وقع بينه وبين غادة حيدر ... والذي انتهى باستقالة غادة من سوراقيا والتحاقها بجريدة اسبوعية تخصصت في الهجوم على شمس الدين الفاسي والصحف التي اصدرها او مولها في لندن وعلى راسها مجلة سوراقيا .
والممتع في كتاب " غادة حيدر " الجديد أنه يتناول فضائح العمل الصحافي واسراره في اوروبا من خلال تتبع مسيرة غسان زكريا الصحافية منذ ان عمل في التجسس لمخابرات عديله عبد الحميد السراج الى ان اصبح يتجسس لمن يدفع اكثر خلال عمله في مجلة الدستور التي اصدرتها المخابرات العراقية في لندن ... ثم بعد ان اصدر مجلته " سوراقيا " باموال حصل عليها من عدة مصادر مشبوهة كان اهمها الامير تركي والشيخ الفاسي ... ولعل هذا يفسر ظهور صور الامير وزوجته هند وجميع اولادها وبناتها في مجلة سوراقيا بمناسبة ودون مناسبة مع ان سوراقيا ليست مجلة " اجتماعيات " بل هي مجلة سياسية كما يقول صاحبها .... والطريف ان غسان زكريا انقلب على عديله بعد ان طلق غسان زوجته الاولى فاصدر كتابا بعنوان " السلطان الاحمر " اتهم فيه عديله عبد الحميد السراج الذي حكم سوريا في عهد الوحدة بأنه كان يعمل حارسا لمحل الدعارة في حلب .... ومن يقرأ مقالات غسان في مجلته سيجد الكثير من هذه الاتهامات التي يوجهها لخصومه فكلهم قوادون وكلهم يقودون على زوجاتهم ... بل وتباهى غسان في احدى مقالاته بأنه اعتاد مواقعة الخصوم من الخلف وان ركبهم احمرت من الركوع امامه اثناء قيامه بالفعل الجنسي بهم ...الخ .
وكمحاولة منها لتحليل شخصية غسان زكريا الانتهازية ... حاولت غادة حيدر في الفصل الاول من الكتاب رسم صورة مقربة عن غسان زكريا ... حين كتبت تقول : "
من يدخل الى مكتب غسان زكريا في العمارة التي اشتراها باموال الامير تركي في جزيرة الكلاب بلندن وجعلها وكرا لمجلته ستواجهه صورة زيتية لزكريا وهو يركب صهوة فرس ابيض كما نبلاء بريطانيا وفرسانها, ليس لانه فارس مغوار, فهو لم يركب في حياته حتى حمارا وانما فقط لانه مصاب بمرض نفسي اسمه الاحساس بالعظمة, وهو تعبير عن نقص عانى منه المذكور بين اقرانه وظل على هامش الحياة, لا يجد نفسه الا في اعمال المخبرين, وهذه هي مهمته الاساسية التي قام بها في زمن السراج وظل بعد ذلك يقوم بها وهو (اجير) لسليم اللوزي قبل ان (ينط) الى لندن فيحترف مهنة التسول ويعتاش على فتات موائد شمس الدين الفاسي, الذي هو -بدوره- يعتاش على فتات الاخرين.
تضيف غادة حيدر : "نجح غسان زكريا في ان يصبح (فارسا) ولكن لحمار اسمه (سوراقيا), مطبوعة قامت وتقوم على اكتاف عدد من الكتاب والصحفيين المحترفين من ذوي المبادئ, استغلهم غسان لابتزاز الاخرين افرادا ودولا وشركات وحكومات, وخرجو -كلهم- من (المولد بلا حمص), اللهم الا بسمعة (وسخة) جعلتهم في القوائم السوداء لاكثر من قطر عربي, ومعظمهم لم يحصلوا من غسان حتى على مرتباتهم الضئيلة, التي كان يسرقها منهم ويكنزها في بنوك خارجية ويحولها الى عقارات وسيارات وارصدة لم تنجح في ان تجعل من هذا التافه رجل اعلام او رجل صحافة او رجل مجتمع
ولد غسان احمد وصفي زكريا في الثلاثينات من اب (شركسي) عمل في عدة وظائف حكومية قبل ان يتوفى عام 1964 عن 75 عاما, وهو مهندس زراعي تخرج من المدرسة الزراعية في استانبول عام 1912 وعمل مدرسا للزراعة في مدرسة سلمية ومفتشا لاملاك الدولة في سورية حتى 1933 ثم مستشارا زراعيا لليمن والعراق والاردن ومفتشا عاما للزراعة في سورية الى ان تقاعد عام 1950 , وقد حاول ولده غسان ان يبتز اليمنيين ولهذه قصة جديرة بان تروى فيما بعد !!
احترف العمل (المخابراتي) منذ كان طالبا في الجامعة الامريكية في بيروت, يدرس التاريخ في النهار ويكتب التقارير في الليل, وكان واحدا من ثلاثة مخبرين غرسهم عديله عبد الحميد السراج في بيروت
للتجسس على القوميين الاجتماعيين في لبنان, طلعت صدقي, الضابط في الاستخبارات السورية وبرهان ادهم, الذي تولى رئاسة المكتب الخاص للشؤون اللبنانية الذي شكله عبد الحميد سراج, لكن (زكريا) كان اكثرهم حظوة لدى السراج, فهو عديله, وهو الى جانب ذلك صحافي, تولى ادارة شؤون جريدة القبس من خالته (راسمة) ارملة نجيب الريسوهو ايضا -وهو الاهم- دعي, قادر على اقناع القوميين الاجتماعيين انه احرص على الحزب من انطوان سعادة نفسه!!! وهذه (خصلة) تميز المذكور حتى كتابة هذه السطور, حيث يجعل علاقته بالحزب (غطاء) يتستر تحته ويبتز باسمه ويضرب بسيفه, مما جعل جميع الذين يحترمون انفسهم من القوميين يقاطعون منشوره وكان آخرهم (جان دايه) الذي (تلوث ) بعد ارتباطه بسوراقيا ... ولهذه الحكاية (حكاية) سنرويها فيما بعد.
عرف زعران دمشق (غسان زكريا) -الشاب الشركسي الاشقر- من صولاته وجولاته في خمارات المدينة وحاناتها التي يتردد عليها المثقفون والحزبيون, وكانت علاقة زكريا -انذاك- بالسفارة الامريكية جد معروفة, حيث كان زكريا (مخبرا) في السفارة المذكورة يقدم تقاريره اليومية عن النشاط السياسي والحزبي والعسكري في البلاد للسفير الامريكي في دمشق جيمس موس من خلال مساعدته (فرنسيس سيموبولوس), التي اتخذت من زكريا عميلا وعشيقا تتلقى منه في الفراش ما كانت تتلقاه الجاسوسة الحسناء (كريستين كيلر) من وزير الدفاع البريطاني, وكان زكريا هو حلقة الوصل بين عدد من الدبلوماسيين ورجال الاعمال والسفارة الامريكية, نذكر منهم الدبلوماسي نهاد ابراهيم باشا ورياض ابو السعود وزهير الشطي وانطون مشاقة, وكانت جلسات هؤلاء واحاديثهم ونشاطاتهم واخبارهم واخبار ما يعرفون تنقل اولا باول الى السفارة الامريكية من خلال الشاب الاشقر, الذي كان يفتح بيته قبالة قصر حالد العظم في ساحة ابي العلا في حي ابو رمانة لزيارات (الشباب) الذين كانوا يقضون اوقاتا مسلية مع الشاب الاشقر وشقيقاته!!! ... وهم يتونسون... وهو يجمع منهم ما تيسر من اخبار.
تضيف غادة حيدر :لم يكن نفوذ المخبر غسان زكريا -آنذاك- يزيد عن نشاطاته الاستخباراتية العادية, المعروفة لدى الشباب في دمشق, وكان رواد نادي (مطار المزة)-وكان آنذاك من اشهر النوادي الليلية في دمشق- يرون غسان وهو يتردد على النادي يوميا, يجلس في زاويته ليستمع باذنه اليمنى الى فرقة (نينوباليرمو) الموسيقية ويترك اذنه اليسرى ليسترق بها السمع هنا وهناك, حيث كان النادي محطة لانظار السياسيين ومكانا لاجتماعاتهم, فيه يلتقي اديب الشيشكلي بعصام المحايدي بصبحي فرحات بحسن عطار بعبدالله محسن. وفي هذا المطعم نجح غسان زكريا في اصطياد عبد الحميد السراج, الضابط الشاب, الهادئ, الذي كان يصعد في سلم الشهرة بسرعة و ولان انف السفارة الامريكية لا يخطئ فقد (شمت) رائحة الخطر المحدق بالوجود الامريكي في المنطقة جراء اتساع نفوذ وشعبية عبد الناصر وتعلق الضابط الشاب في سوريا به, وكان (السراج) واحدا من الضباط الذين يجاهرون بالولاء لعبد الناصر, لذا لم يكن عجيبا ولا غريبا ان يطلب غسان زكريا من فؤاد غميان -صاحب المطعم- ان يقدمه الى عبد الحميد السراج, ولم يكن مدهشا ايضا ان يزوجه (ملك) اخت شقيقته, ليحكم -مع السراج- من وراء الستار!!
لم يكن (شكل) غسان زكريا جديدا على عبد الحميد السراج, فقد كان السراج يراه -يوم كان السراج دركيا وحارسا لسوق البحسيتا بحلب- يدلف مع بعض الرجال الى السوق, حيث مضاجع بنات الهوى وغلمان الهوى ايضا, وكانت (حلاوة) هذا الشاب الاشقر تثير آنذاك حسد بائعات الهوى لما رأين ان هذا الشاب القادم من دمشق يسرق منهن الزبائن, وهناك -في حلب- تعرف غسان زكريا بزوجته الاولى الكردية الاصل ابنة (علي آغا زلفو) وشقيقتها (ملك) التي اسرت قلب عبد الحميد السراج -بعد ذلك- واصبحت سيدة سورية الاولى طوال حكم عبد الناصر.
لم يكن السراج يثق الا بزوجته وانسبائه فطبيعة النظام القائم آنذاك كان يحتم عليه ان يكون حريصا, فالضباط القوميون يتكاثرون في اوساط الجيش والانقلابات العسكرية المتعاقبة بدءا بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 افقدت الحياة التشريعية والتنفيذية والقضائية استقرارها واصبحت ابواب البلاد مشرعة لكل الاحتمالات وفي ظل هذا المناخ بدأ (حزب الشعب) يتحرك في اوساط العسكريين ممثلا بسامي الحناوي ورشدي الكيخيا, وكان هذا الحزب يدعو الى الوحدة مع العراق وكانت علاقة اللواء الحناوي مع نوري السعيد اكثر من وثيقة, ولم يكن عبد الناصر راضيا عن هذه العلاقة, وكان يرى فيها امتدادا للنفوذ البريطاني في المنطقة, الداعم آنذاك لحكومة نوري السعيد, وفي المقابل كان البعثيون يعارضون هذا التوجه ويعتبرونه عودة الى الاستعمار تحت شعار الوحدة وكان البعثيون يتهمون الضالعين برفع شعار الوحدة مع العراق بالتجسس, واستطاعوا ان يدفعوا ببعض ضباطهم الى الصفوف الاولى في سدة الحكم, على رأسهم العقيد عدنان المالكي, الذي (فرمل) نفوذ الضباط الموالين للحناوي في الجيش من خلال حركة تنقلات واسعة اجراها في صفوفه بصفته رئيس الشعبة الاولى (الاركان), وجاءت حادثة اغتيال عدنان المالكي في الملعب البلدي بدمشق (بعد ظهر يوم الجمعة 22 من نيسان ابريل 1955) لتدفع بالسراج الى الصفوف الاولى في القيادة ولترفعه الى مصاف الفئة الحاكمة المتحكمة... ورفع -معه طبعا- الشاب الشركسي الاشقر الذي كان السراج يستأنس اليه كثيرا ويستلطفه!!!
كانت المواجهة مع الحركة السورية القومية التي اتهمت بجريمة اغتيال عدنان المالكي مواجهة دامية قادها عبد الحميد السراج الذي كان الحاكم الفعلي لسوريا اعتبارا من نيسان ابريل 1955 وحتى ايلول سبتمبر 1961, ولم تكن المواجهة سهلة, فالخصم حزب مدرب يتطلع بطموح الى تسلم انظمة الحكم في المنطقة واعادة تشكيلها ضمن رؤية خاصة وجدت تجاوبا لدى قطاع كبير من المثقفين, والحاكم رجل عسكري محافظ كان يرأس الاستخبارات العسكرية (المكتب الثاني) في سوريا يدعمه جمال عبد الناصر.
في اطار تصفية للخلافات العائلية بين غسان زكريا وعديله السابق عبد الحميد السراج -الذي يرأس حاليا شركات التأمين في مصر والذي قيل انه رفض دعم غسان زكريا في مشوره الصحفي الابتزازي وطرد ابنته (ابنة غسان) من زوجته الاولى (شقيقة ملك) لما حملت اليه طلب والدها المتصعلك في لندن-, اصدر غسان زكريا كتابا بعنوان (السلطان الاحمر) نشره على حلقات في سوراقيا ثم جمعه في كتاب طرحه في اسواق لندن فلم يجد من يشتريه لان صاحبه (قزم) التاريخ وزور فيه ومسخه, وابس نفسه وعديله السابق عباءة واسعة فضفاضة, جعلتهما احد صناع التاريخ في الشرق القديم وان كانغسان زكريا قد انقلب في رواياته على عديله, فجعله سفاحا... ووضع نفسه في مقابل السفاح رجل فكر وسياسة والتزام ومبادئ يخاصم عديله (الحاكم بأمره) من اجل فكر وحرية واستقلال, وهو الموظف الصغير في جهاز الاستخبارات, الذي غرسه السراج في اوساط السوريين القوميين يفعل بهم ما يفعل... ولا يزال.
في الفصل الخاص بنشأة السراج والذي سماه غسان زكريا (حارس البحستيا) شطب زكريا اية علاقة له بمواخير حلب, واكتفى بالاشارة الى دور السراج كدركي يحرس السوق العمومي, بل واتهمه بعلاقة مع مومس من هذا السوق اسمها (ناديا), نقلها معه الى دمشق وعاشرها معاشرة الازواج في شقته المتواضعة في الزقاق الصغير المتفرع عن شارع 29 ايار بمنطقة الصالحية في دمشق وقتلها عام 1959 على ضفة نهر بانياس المتفرع من بردى!!... الذي عرفوا غسان زكريا آنذاك قالوا ان ناديا كانت تنافس غسان على قلب السراج, الذي وجد في هذا الشاب الاشقر حاجته, فما عاد له من حاجة مع ناديا... ويقال: ان غسان زكريا هو الذي ابلغ عن فقدان (ناديا) وهو الذي اكتشف جثتها على النهر!!
لم يكن عبد الحميد السراج سيئا, على صعيد وطني, فغسان زكريا نفسه يعترف بان السراج كان ناقما على حكام سوريا لانهم حرموه من حق القتال في فلسطين, والسراج -كما ورد في السيرة التي خطها غسان رمم الجراحة التبشيعية التي اجراها على صاحب السيرة- رجل عصامي, دخل الشرطة كدركي في حلب, وحضر لامتحان البكالوريا وهو في الخدمة وانتسب الى الكلية العسكرية في عام 1947, وكان على رأس الشباب الحمويين الذين طلبوا الالتحاق بجيش الانقاذ للقتال في فلسطين, لكن السراج من موقعه في الحكم ومن تحالفاته مع عبد الناصر وجد نفسه في معركة حياة او موت مع حزب قوي قادر على التأثير بالجماهير, لذا امر بمداهمة منزل (جوليات المر) ارملة انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وطارد جورج عبد المسيح -زعيم الحزب آنذاك- الذي نجح في الفرار من دمشق وصفى نفوذ الحزب السيوعي بعد مقتل فرج الله الحلو, لكن القوميين نقلوا حربهم الى لبنان, مستغلين روح العداء بين (ناصر) و (شمعون) فاصدروا صحفهم اللاهية (صدى لبنان) و (الزوابع) وغيرها, وكانت منشوراتهم ترسل على ظهور الحمير والبغال عبر منحدرات بعلبك وسهل الزيداني وسرغايا لتوزع في دمشق.
غسان يعترف في كتابه ان تسرب هذه النشرات الى دمشق كان يقض مضجع عبد الحميد السراج فحار كيف يمنع تسربها, لكن (زكريا) لم يذكر في الكتاب انه كان واحدا من الجواسيس الذين غرسهم السراج في بيروت لكتابة التقارير ورصد انشطة القوميين والايعاز بما يمكن عمله لمحاصرتهم, وتمت عملية تهريب غسان زكريا الى بيروت من خلال سيناريو كتبه عبد الحميد السراج !!
الجاسوس
كان عبد الحميد السراج يعلم ان مهمة (غرس) جاسوس له في صفوف السوريين الاجتماعيين النشطين في بيروت ليست عملية سهلة, اولا لانه يصعب ايجاد (العميل) المناسب, القادر على آداء الدور بالكامل وثانيا لان السوريين الاجتماعيين انفسهم عيونا داخل اجهزة السراج, لذا تفتقت عبقرية السراج عن سيناريو يقوم ببطولته الاشقر غسان زكريا, وكانت الخطة تقوم على ايهام السوريين الاجتماعيين بوجود خلافات عائلية بين السراج وغسان على ارضية انتماء الثاني للحزب, ثم التمهيد لفرار المذكور الى بيروت ضمن مسرحية ايضا فيها الكثير من الدراما!
في شمس الخامس والعشرين من تموز يوليو 1955 بدأ غسان زكريا ينفذ السيناريو بالتعاون مع شقيق زوجته (خالد)... بعث السراج بعدد من عناصر المكتب الثاني -الاستخبارات- الى الحارة التي يسكن فيها غسان (الطابق الارضي من مبنى مفيد الحسيني) الكائن بشارع ركن الدين, ليوهم سكان الحي بان زكريا مطلوب... كما بعث بعدد مماثل من المخبرين الى بنك لقاهرة في ساحة يوسف العظمة في منطقة الحريقة, حيث يعمل غسان زكريا, لتنتشر (الاشاعة) في دمشق وتصل فورا الى بيروت... غسان زكريا مطلوب لمخابرات عبد الحميد السراح ... كان السيناريو متقنا لعب فيه السراج دورا, ولعبت فيه زوجته ملك دورا, وقامي بالباقي غسان وشقيق زوجته (عديل السراج) خالد... كانت الاسرة كلها مشتركة في السيناريو لان نجاح غسان في مهمته هو نجاح للاسرة في الاستيلاء على الحكم والبطش بالمعارضين المحتملين في صفوف الحزب.
الحكاية بعد ذلك معروفة رواها غسن في كتابه عن (السلطان الاحمر) مع الكثير من البهارات حتى يبدو في صورة مناضل, كاسترو عصره وزمانه, ولنتركه يكمل المشهد الثاني من الفيلم:
"تسلقت الجدار العالي الفاصل بين البيت والحديقة المتصلة بشارع ركن الدين ووليت الادبار متجها نحو منطقة الحريقة حيث كان فرع البنك في ساحة يوسف العظمة... لم يبطئ زوار الفجر قبل ان يطرقوا الباب فتحته (ملك) زوجة السراج فدهش ابراهيم ظاظا لما رآها تستقبله, انعقدت الكلمات على لسانه برهات ثم بادرها متسائلا:"ماذا تفعلين هنا؟" فتجمع الحنق في صوتها :" الا تدري ان الذي جئت تطلبه هو صهري زوج اختي".
علا وجه الرجل حياء غريب وبدأ يتوسل الاعذار وادعى انه لم يكن يعرف ذلك ثم عاد يسألها عني فاجابته انني مسافر منذ اربعة ايام لذلك جاءت الى شقيقتها لتبقى معها فلا تتركها في البيت وحدها اثناء غيابي واتبعت ذلك بان دعته لتفتيش البيت فاعرض واعتذر ومشى... وصلت الى البنك وانا الهث, طوال الطريق تجنبت السير في وسط الرصيف, فسرت بمحاذاة الابنية فزعا من ان يخطفني من وسط الرصيف من يترصدني لاعتقالي, فلا يترك لي مجالا للهرب الى داخل البنايات او المحلات التجارية الكبرى.
آخر ما كنت اتوقعه وانا جالس على مكتبي, زائغ العينين, انظر بين الفينةوالفينة الى باب البنك بلهفة, ثم انقله الى الساعة الكبيرة المسمرة على وسط الجدار امامي, فبدت كأنها عين مارد يهددني ويعد لي الدقائق والثواني لحريتي ام اسري, ان يطلع علي صوت مساعد مدير البنك نزار الصباغ (الماركسي الحاقد على الانجليز لانهم سلموا والده الى الوصي على العرش العراقي عبد الاله ورئيس وزرائه نوري السعيد, فاعدم في ساحة الرشيد بتهمة الخيانة العظمى) مهددا ومتوعدا, يكيل لي التهم ويصفني في عداد المتآمرين على سلامة الدولة, مؤكدا في شبه يقين علاقة القوميين الاجتماعيين بالغرب, وان واشنطن ولندن والقوميين قتلة عدنان المالكي.
لقد كان نزار الصباغ يردد كلاما لاكته السن العامة ضمن الحملة المسعورة المدبرة والمنظمة التي كتبها الشيوعيون "الحورانيون" على حناجرهم وفي منشوراتهم وتصريحاتهم ضد القوميين الاجتماعيين, فجاهدت النفس ان لا اعيره اهتماما, تركته يغلي ويفور واقحمت عيني في اعمدة جريدة كانت مرمية على المكتب, فقلبتها بسرعة, مصطنعا قراءتها... اتحايل, فاسترق النظر مرة الى الساعة ... و... مرات الى باب البنك الرئيسي اترقب بصبر دخول خالد لينتشلني من بين براثن الاسر.
خواطر كالومض مرت مختلطة في رأسي... فتهالكت على الكرسي متعبا, وما شعرت الا بيد تربت على كتفي فانتفضت فاذا به خالد زلفو, شقيق زوجتي, فتناولت حقيبة جلدية صغيرة القمتها بطاقة الهوية, لم استأذن من احد لم اودع احد... رميت نظرة اخيرة على مكتبي وخرجت يلحق بي شقيق زوجتي, كنت وقتها اهرب من سجن المزة الى ... الحرية.
طريق دمشق-بيروت كانت مزروعة بالعيون المسنونة, فلقد بث عبد الحميد السراج جواسيسه يترصدون الطرقات, كأنه ما اكتفى بآلاف الذين اودعهم السجون والمعتقلات فاخذ يطلب المزيد.
اقترح علي خالد , ان نتسلق جبل الشيخ الى لبنان, خطف كلامة بسرعة ولم يترك لي مجال للتفكير, اذعنت صاغرا, فكل ما اريده في تلك اللحظات ان اجد من يضيئ في مقلتي الامل بالافلات من قبضة عبد الحميد السراج القاتلة.
سارعنا الى مرآب سيارات القنيطرة (قبل سقوطها في الاحتلال الاسرائيلي باثني عشر عاما) لم نجد الا باصا صغيرا, كان شرط سائقه ان ندفع له سبع عشرة ليرة سورية سلفا قبل ان يدير محركه, فما ان القم جيبه بالمال حتى مضى باتجاه الجنوب الغربي.
كان الباص يطير فوق الطرقات السنجابية, الاشجار والبيوت تركض في الاتجاه المضاد لنا, السرعة الانسيابية انعشت قلبي الكسير, فمددت رأسي من النافذة وتركت الهواء يلطم وجهي, اطلت علينا من بعيد ضاحية "المزة" وسجنها العسكري الرابض على ذروة هضبة فيها, لي خلف جدرانه احبة, سياط الجلادين تنزل على اجسادهم, فمطار دمشق القديم, فالسهول والهضاب المترامية الاطراف, فتل "الكواكب" حيث نزلت الرؤيا على الضابط الروماني شاوول, الذي اصبح بول الرسول فيلسوف المسيحية... ومنه مررنا بسعسع, فامتدت امام انظارنا سهوب خضر وحصون وستحكامات ومخابئ ومرابض المدفعية التي كانت تشكل خطوط دفاع سورية الخلفية...
ردني اختناق صوت المحرك الى رشدي, فقد وصلنا الى مزرعة "الحلس" التي كانت بعض املاك علي زلفو (والد زوجتي) الزراعية الواسعة, فدخلنا, خالد وانا وعر الجولان سيرا على الاقدام, بعد ساعة بلغنا مساكن فلاحي المزرعة الذين تراكضوا الينا مرحبين , بنجل الاغا وصهره.
كان النهار قد انتصف, وعيون الشمس المحمرة تلسعنا بحرارنها, فتطوع احد الفلاحين, كان اسمه محمود, ان يكون دليلنا الى قرية "الدوار" المختبئة في السفح الجنوبي من جبل حرمون (الشيخ) على ارتفاع 2200 قدم عن سطح البحر, فقد شرح خالد له بانه يريد التسلق الى "الدوار" هربا من ابيه الآغا الغاضب عليه بسبب مشاكساته!!
مشيت خلفهما صعدا, غير مبال بالحصى المتناثر تحت رجلي, ولا اعطيت بالا لوعر او لصخر, او لجرح في ركبتي بدا ينزف لما ارتطمت بصخرة تسلقتها, كان دليلنا محمود قصير القامة, نحيف البنية, دقيق الساقين, سريع العدو والتسلق فهو الف منذ صغره الوعر والصخور وحفظ الدرب الى "الدوار" عن ظهر قلب, فامكنه ان يختصر لنا الدرب ويخفف عنا صعوبة التسلق.
كانت الشمس قد نشرت الوية المغيب لم علقت قلوبنا على مشارف "الدوار", وقفت التقط انفاسي اتفقد الجرح النازف في ركبتي, فشدني خالد بذراعي نحو بيت المختار ابو عزالدين.
اشرأبت اعناق من في البيت نحو الباب, ووقفت انظارهم علينا, ولم تمض دقيقة على جلوسنا, حتى سد الباب رجل مربوع القامة,بدين, عريض المنكبين واسع الصدر ضخمه, عرف ابن الآغا, فلف عباءته وارخى جفنيه وحتى رأسه.
"يا هلا ياهلا .. ما وراءك يا سيدنا"
"ما ورائي الا الخير يا مختار"
ما كاد خالد ان ينهي كلامه, حتى اومأ المختار, ان احضروا العشاء. فانتصب خالد واقفا منتحلا الاعذار, بضرورة مغادرتنا بسرعة لانه يخشى ان يتعقبه والده الآغا, وبلباقة دغدغ شعور المختار فبدا زاهيا متفاخرا اذ قال له:
"اعرف ان والدي يصطفيك من بين الاخرين, ولذلك له دالة عليك يا ايا عزالدين, فلا اريد ان اوقعك في حرج معه, فمشكلتي مع كبيرة.. فاتركنا نتابع سيرنا الى "شبعا" في المقلب اللبناني من حرمون وهناك نتدبر امرنا الى بيروت, ولقد تركت لشقيقي الاكبر معن امر تدبير الاشكال وتسويته بيني وبين والدي".
رافقنا صوت المختار حتى منتصف الدرب, حتى اختفى, واختفت معه "الدوار" خلفنا, ونحن نتسلق الصخور فيتدحرج الحصى وراء دعساتنا.
اذكر جيدا, لما مالت الشمس نحو المغيب, كيف انها تركت اشعتها المرتجفة وسط حبال النور, تذهب تلال فلسطين, حت اسرح نظري فيها, ارتاح مسندا ظهري المتعب على صخر اجرد, فيقطع صوت خالد علي نشوتي بالمنظر فاعود امد يدي الى الصخور... واتسلق.
بدأ البرد يسكب في جسدي ارتعاشات رقيقة, واخذ التعب مني مأخذا, وكلما كنا نصل الى جبل ترامت امامنا جبال, وكلما بلغنا قمة اطلت علينا قمم اخرى, وانتصف الليل بنا لا يقلق سكونه سوى هسيس النسيم البارد وصوت طائر ضل مرقده.
تبدى القمر بدرا, من خلال السحب المنتشرة في اعالي الهضاب المتصلة بجبل حرمون, فارسل انواره تتدحرج ببطء على الصخور, فتلقي ظلالها القاتمة تؤلف اشكالا غريبة, تكبر وتصغر, تنفرج وتضيق, تبعا لمرور السحب امام ضوء القمر, فسمعنا فجأة اصواتا بشرية ونهيق حمير وبغال, فكمنا خلف صخرة كبيرة نستطلع, خشيت دسيسة دبرها علينا في دمشق احدهم, فاقامت الشرطة العسكرية السورية موقعا لها في قلعة شيبوب المجاورة لقصر عنتر, والموقعان استعملا في العهود الوسطية كمركز مراقبة واشارية نارية لانذار دمشق من زحف غريب عليها من سهول فلسطين, فيما المؤرخون يعيدون القلعة والقصر الى العصر الآرامي فالكنعاني, حيث كان يعبد فيهما الاله حدد, فتقوم عذارى كنعان وارام بتقديم انفسهن للكهنة في عملية عطاء جنسي تأكيدا لاستمرار الخصب وغسل الذنوب!!
بدت لنا في وسط الوادي مجموعة من الفلاحين اللبنانيين والسوريين, كانوا اوقدوا نارا واكلوا شواء صيدهم, فيما دوابهم ترتاح قبل متابعة السير, فاقترب مني محمود وبصق حنقا وشتم, ومن دون ان اسأل قال: "هؤلاء من قومي يتعاملون مع اليهود, يهربون البضائع منهم واليهم, وهم الان اما في طريقهم الى قراهم او الى فلسطين المحتلة".
انتظرنا فترة ظننتها دهرا, كان هذا الانتظار الممض اصعب علي من كل الارهاب الذي عشته في دمشق والارهاق الذي حل بي وانا اتسلق كتلة صخرية يزيد ارتفاعها عن 3000 قدم عن سطح البحر.
كان ما تبقى من الثلج في الجبل يتكوم على شكل دوائر بيضاء مرمية تحت الصخور ... لم اعد اقوى على تحمل البرد ينخر عظمي, وكان قد حل بي الاعياء فانطرحت على وجهي لا اعي وما استفقت الا وخالد يلطمني على وجنتي ومحمود يفرك يدي ليدفئها.
بقرب قصر شيبوب بدأت رحلة الهبوط (حوالي 2000 قدم) الى "شبعا" (التي تحاصرها قوات اسرائيل هذه الايام) فشعرت انني ملكت الحرية, انني ارتديتها معطفا يقيني من البرد ودرعا على صدري يحميني من الخوف, حتى ان رفيقي في رحلة التسلق والهبوط ما عادا يلحقان بي, صرت ارمي بنفسي على الصخور والحصى, صرت اتدحرج معها اتنشق هواء الحرية بعيدا عن عنف عبد الحميد السراج وارهابه.
كان الفجر قد بدأ يلقي وشاحه على "شبعا" دافعا امامه نسيما باردا, فتراءى لي من بعيد بستان تفاح, فركضت نحوه والجوع يعتصرني وبدأت بقطف حبات التفاح غير مبال بالمواد الكيماوية التي كانت رشت عليها, ثم جلست على كعب شجرة... ارتاح, فاذا بصاحب البستان يطل علينا مستفسرا عمن نكون, ولما عرف فينا ابن الآغا افسح لنا طريق بيته.
ما ان جلس بيننا يسكب لنا القهوة مرة من دل بقي يفقفق على نار هادئة, حتى دخل علينا ثلاثة شبان, قدمنا مختار "شبعا" اليهم باننا :" ابن الآغا علي زلفو وصهره ودليلهما", جلسوا حلقة حولنا, يرمون على وجوهنا نظرات موشاة بالريبة والتوجس, وبعد ان ساد السكوت حرك اكبر الشبان الثلاثة سنا كتفيه, وكان في العقد الثالث من سنيه, ورفع رأسه قليلا وقال مستخرجا كلامه من كعب الذاكرة:
"الست غسان زكريا؟"
تمليت وجهه بسرعة واجبت:
"نعم انا هو"
"انسيتني"
لملم حيرتي المرتسمة على وجهي وتابع:
"انا كنت في عداد الذين مكثوا في بيتك في دمشق ثلاثة ايام ايام الانتخابات النيابية عام 1954"
فجأة بان وجهه اليفا وعرفته, فبدأ يروي كيف كان بيتي في دمشق عامذاك, مفتوحا ليل نهار لمئات الاتين من الوطن الكبير لدعم ترشيح عصام المحايري وعبدالله محسن خلال الحقبة الشيشكلية, ولما انس مني اخذ يخبرنا ان الشرطة السورية اقامت مرصدا على قمة الجبل بين قلعة شيبوب وقصر عنتر لمراقبة المتسللين من الشام الى لبنان, وانه في الثاني والعشرين من تموز تمكن النقيب فضل الله ابو منصور على صهوة فرسه من ان يعبر ومعه مرافقان , اصيبا بجروح من رشاشات اطلقهما عليهما الجنود الذين كانوا طاردوهما مع النقيب من سفح الجبل الى ذروته فاعتقل الجريحان" اما فضل الله ابو منصور فقد نزل الينا واوصاناه الى مرجعيون ومنها الى صيدا وهو الان في بيروت".
احسست بالراحة واني بين اهلي وعشيرتي, ولم تمض ساعة حتى كنا نحن ايضا في الطريق الى مرجعيون ومنها الى صيدا حتى وصلنا بيروت في الخامسة مساء, فتوجهت مباشرة الى مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي في مبنى العازارية الضخم, حيث استقبلني جبران جريح وكان عميدا للداخلية في الحزب, قدمت له تقريرا عن الذي حصل وكيف تسللت من دمشق الى بيروت, اخبرته بما يفعله السراج واعوانه بالقوميين, الذين يذهبون الى السجون ويلاقون اصناف التعذيب ضحايا لمؤامرة لم تكشف ابعادها بعد.
ودعته لاتدبر امري, فاذا بي وجها لوجه مع الراحل سعيد تقي الدين, الذي فوجئ بمآي في بيروت, فامسك بيدي وادخلني الى مكتبه حيث كان وكيلا لعميد الاذاعة, عصام المحايري المرمي في سجن المزة العسكري, يعاني الامرين من جلاده الوكيل في الجيش السوري ماجد شاكر, الذي كان رئيس الشرطة العسكرية اكرم الديري قد اوكله امر التفنن في تعذيبه ليل نهار.
كرت اسئلة سعيد تقي الدين: كيف.. وماذا... واين .. ومتى؟ يقف مني على ادنى التفاصيل, يمتص لفافات التبغ الواحدة بعد الاخرى, يرمي اعقابها بعصبية في صحن الدخان.
ذكرت له كل ما اعرف, استمهلني سعيد برهات, خرج من المكتب وبيده ورقة عليها افتتاحية لجريدة "صدى لبنان" عاد, فرآني اشبك عشري على رأسي وقد ارخيته على المكتب ونمت فتركني هكذا حتى الصباح.
الذي لم يقله غسان زكريا في (روايته) ان علامات الاستفهام الكثيرة احاطت عملية هروبه من دمشق الى بيروت.. الذي لم يقله غسان زكريا هو ان (جبران جريج) -وزير الداخلية في الحزب- قد حقق معه مطولا حول وقائع كثيرة وطلب منه اجابات اكثر من علامات استفهام ظلت قائمة... الذي لم يقله غسان ان الحزب وضعه تحت المراقبة 24 ساعة لمدة ستة اشهر هي المدة التي قضاها في بيروت متجسسا على الحزب ورجالاته قبل ان تصدر اليه الاوامر بالعودة الى دمشق... كانت مهمة غسان زكريا في بيروت صعبة بعض الشيئ.. كان عليه ان يوقع باخطر رجلين في الحزب هما سعيد تقي الدين وغسان جديد... الاول كان مسؤولا عن اذاعة الحزب, التي كانت تشن حملة شعواء على النظام الحاكم في سوريا... وتصدر المناشير التي تطبع في بيروت وتنقل على ظهور البغال الى دمشق لتوزع فيها, والثاني (غسان جديد) ضابط مشهور بالشجاعة قاد معارك باسلة في فلسطين عام 1948 استحق على اثرها وسام (امية).
كانت مهمة غسان في بيروت مهمة استخبارية بالدرجة الاولى, اما التنفيذ فكان موكولا لاثنين من رجال السراج كان قد غرسهما في بيروت , الاول (طلعت صدقي) والثاني (برهان ادهم).
تجنبا للشبهة كانت تقارير غسان زكريا ترسل بالبريد العادي الى عنوان في دمشق, في تقاريره وصف غسان الاماكن التي يتردد عليها سعيد تقي الدين وغسان جديد وحدد مقهى (لاروندا) -في ساحة البرج- كمكان مناسب للقيام بعملية اختطاف الرجلين, واقترح الاتصال بمشهود دندش ليرتب العملية مقابل مبلغ من المال.
الحكاية بعد ذلك اوردها غسان في كتابه, بعد ان اخرج نفسه منهاطبعا... يقول غسان:" اعد السراج العدة, ارسل احد عناصره وكان حمويا (لم يعد في الذاكرة مطارح لاسمه) اوعز اليه بالاتصال بمشهور دندش وغيره من شباب الهرمل (البقاع) في محاولة لاغرائهم بالمال ليساعدوه على خطف سعيد تقي الدين وغسان جديد الى دمشق.
ماشى مشهور دندش وصحبه رسول السراج في خطته, التقوه في مقهى كان يقوم مكان "لاروندا" على زاوية الطرف الجنوبي من ساحة البرج في بيروت, سمعوا له قولته, ساوموه وساومهم حتى اتفقوا على ان يدعو مشهور دندش سعيد تقي الدين وغسان جديد الى العشاء في احد مطاعم السمك قرب بلاج "السان ميشال" , فيحضر الحموي الى المطعم ومعه مبلغ خمسين الف ليرة لبنانية (كان هذا المبلغ يعد ثروة هاتيك الايام) يسلمه فيستلم الرجلين.
دخل مشهور دندش المطعم ليلتها, وتوزع من معه وكانوا اربعين شخصا, على طاولات ركزت في زوايا المطعم الاربعة, فبدوا كانهم زبائن جالسين الى موائد الطعام, بينما انتقى دندش طاولة في وسط المطعم, فجلس اليها اربعة كانوا اشتركوا في التفاوض مع رسول السراج.
حسب الموعد المضروب دخل الحموي المطعم, فاقترب من طاولة دندش, رمى السلام, وابتسم فبان كبير الانف بارز الحاجبين, تغور تحتهما عينان واسعتان لا توحيان بالثقة, اشعث الشعر, لحظات لحق به اثنان قدمهما وجلسا, فدارت العيون على المكان بريبة وحذر, مال الحموي على مشهور دندش يسأله هامسا :"اين البضاعة؟".
رسم مشهور دندش على وجهه ابتسامة اوحت للحموي بالاطمئنان وقال:" البضاعة لن تصل الا بعد ان نشرب كأس عرق... فالليل ما زال باوله", ودارت اقداح العرق تتراقص بين الاصابع, ودارت معها الرؤوس ثملى, فما شعر الحموي ومن معه, الا وقد انتصف الليل وخفتت الاضواء في المطعم وتوزع "الزبائن" على بواباته شاهرين مسدساتهم, لم يقو الثلاثة على الحراك, استدار الحموي نحو مشهور دندش محاولا استجلاء الامر, فاستل دندش مسدسه من خاصرته ووضعه على الطاولة فارتد الحموي وقد بدأ الخوف يتكمش في ملامح وجهه.
فجأة دخل غسان جديد صائحا لنشرب كأس انطون سعادة , فانتفض رفيق الحموي واستدارا نحو الصوت فاذا بغسان جديد يعرفهما: النقيب راشد قطيني نائب السراج في جهاز الاستخبارات والملازم اول عبد الوهاب الخطيب ساعد السلطان الاحمر الضاربة وجلاده المفضل, خارت قوى راشد قطني وانتابت الملازم الخطيب رعدة الذعر وبدأ الاثنان يتوسلان غسان جديد , اما الحموي فقد كان ثملا فبقي جالسا لا يقوى حراكا.
فشلت مهمة غسان زكريا في بيروت واوقع (عديله) في حرج كبير جعله يطير بنفسه الى العاصة اللبنانية ليلتقي الامير مجيد ارسلان وزير الدفاع, لعله يساعد في استرداد الضابطين وكان له ما اراد, وجاءت زوجته الى بيروت لتقنعه بالعودة الى دمشق مؤكدة له ان السراج غفر له... كان زكريا خائفا, ظل السراج يسدد ايجار غرفته في نزل (اوغاريت) في ساحة الدباس ببيروت, هذا (النزل) الذي اختاره زكريا للاقامة لانه تحول الى منتدى -كما يقول زكريا نفسه- يلتقي فيه الذين افلتوا من بطش عبد الحميد السراج... كانت آخر الاخبار تصل الى النزل من دمشق فيطيرها زكريا الى دمشق مرة اخرى... الى ان صدرت الاوامر لغسان بالعودة الى دمشق.. فعاد اليها يجرر اذيال الهزيمة.
وصل غسان زكريا الى دمشق ليجد في انتظاره مهام اخرى, يساعده فيها هذه المرة نسيبه عبد الكريم الدباح الدندشي, الذي يعترف غسان نفسه انه كان يسرق اموال القوميين الاجتماعيين في البرازيل والارجنتين -حين عمل هناك بالسلك الدبلوماسي- التي كان يحملها الى عائلات الاسرى في سجون السراج في دمشق, ولكن هذه الاموال لم تصل وكان عذر الدندشي ان هذه الاموال (طارت9 وهو على ظهر الباخرة التي نقلته من مرفأ جنوا في ايطاليا الى مرفأ بيروت.
تفرد غادة حيدر في كتابها فصلا كاملا عن الدور الذي لعبه غسان زكريا في دمشق فبعد استقرار الاوضاع نسبيا لعبد الحميد السراج, جاء الدور على بطانته من الاقرباء والانسباء والاقارب ليحلبوا البلاد ويبتزوا العباد باسم قريبهم, وكان لغسان زكريا اليد الطولى في هذه المهام وهو استاذ في هذا الفن, تلقن دروسه الاولى ايام كان يتردد على سوق الساقطات وينافسهن في حلب, الى خبرته في المساومة التي اكتسبها في (نادي المزة) وكانت وظيفته في جريدة (القبس) المملوكة لخالته راسمة ارملة نجيب الريس, وتحت ستار العمل الصحافي لعب غسان زكريا ادوار استخبارية ومثلها في الابتزاز والارتزاق لعل اهمها حكايته مع (الملك حسين) وحكايته مع المغترب الامريكاني السوري الاصل نجيب منهل المعروف باسم (جيم).. الحكاية الاوليى نموذج من ادب الابتزاز السياسي... والحكاية الثانية نموذج من ادب الابتزاز المالي واستغلال النفوذ وكانت حكاية (جيم) هي القشة التي قسمت ظهر البعير في علاقة غسان زكريا بعديله عبد الحميد السراج, لان الرجلين تبادلا الاتهامات فيما يتعلق بالصفقة وبحقيبة يقال انه كان فيها مليون ليرة سورية اختفت, فيما اتهم غسان زوجة عديله (ملك) بسرقتها.
بوفاة نجيب الريس خلا مقعد التحرير في جريدة (القبس) الدمشقية ولم يكن بامكان ارملته (راسمة) ان تدير العمل في الجريدة ولم تكن امكانات الجريدة تسمح بتعيين مدير متفرغ , بينما كان ابنها (رياض) صغيرا في السن, لذا لم تجد راسمة من مفر غير تسليم رقبة الجريدة الى ابن اختها غسان زكريا, العائد من بيروت بخفي حنين, وسرعان ما اتخذ غسان مهمنة الصحافة غطاء لادارة اعماله المخابراتية وصفقات (الكوميشين) وبعض المهمات الخاصة التي كان يكلفه بها السراج والتي كان ينفذها غيان تحت غطاء انه صحافي, وكانت مهمته الى الاردن في الاردن واحدة من هذه المهمات التي تنطل على العاهل الاردني ولا على رئيس ديوانه بهجت التلهوني, وقد اعترف زكريا في كتابه بذكاء العاهل الاردني الذي اكتشف ان هذا العديل الصحافي لا بد انه جاء عمان للملمة اخبارها وحشرها في تقرير يرفعه الى نسيبه.
في عام 1957 حرك علي ابو نواردبابات باتجاه القصر في محاولة انقلابية فاشلة, قيل يومها انها مرتبطة بجمال عبد الناصر ومحركة من قبل عبد الحميد السراج, وادى فشل المحاولة الى اهتزازصورة السراج كحليف لعبد الناصر يعتمد عليه, ولم يكم امام السراج من طريقة لاستطلاع الامر عن كثب الا بتكليف عديله وجاسوسه غسان زكريا بالمهمة خاصة وانه (صحافي), والدخول الى الاردن تحت هذه الصفة لن يثير اية شبهات تذكر, تم فعلا اصدار الامر لغسان زكريا بقطع زيارته الى (جدة) والتوجه فورا الى الاردن لمقابلة الملك حسين, حمل الامر السراجي الى غسان رئيس تحرير القبس عباس الحامض, ولم تكد تمر ساعات لا ورن جرس الهاتف في غرفة غسان في فندق فيلاديلفيا بعمان.. كان على الخط رئيس الديوان بهجت التلهوني, الذي دعا (غسان) الى قصر بسمان لمقابلة الملك, وهناك لم تكن مقابلة وانما (رسالة) شفوية حملها الملك غسانا لعبد الحميد السراج... وكان الملك يعرف -من خلال اجهزته- ان الشركسي القابع امامه , عديل السراج, ليس اكثر من جاسوس في جهاز يعمل على اسقاط نظام الحكم في البلاد, وتم التعامل مع غسان -على المكشوف- بصفته هذه, ووضع تحت المراقبة ثلاثة ايام , (شمموه) فيها الهواء, وافهموه جيدا ان اية محاولة اخرى من عديله لن يكون مصيرها لا الفشل... ونقل (غسان) الرسالة الى عديله, الذي تبنى حركة (علي الحياري) لكنها ايضا باءت بالفشل وخرجت الجماهير في الشوارع تهتف للملك وتندد بالسراج!!
كان غسان يبحث لنفسه عن دور يماثل الدور الذي يلعبه الصحافي محمد حسنين هيكل في نظام عبد الناصر, لكنه فشل في اقناع السراج بانه الرجل المناسب لاداء هذا الدور, وظلت (القبس) صحيفة (قزمة) تنطق باسم جهاز الاستخبارات وتحرر في مقر الجهاز باشراف فؤاد الشايب, مسؤول الرقابة على الصحف انذاك... كان السراج يعلم ان غسان زكريا لا يصلح الا لدور مخبر صغير, ولبعض الونس في الفراش, لذا لم يطلق يده كثيرا في اي اتجاه.. كان يربطه بمن حوله من رجال ومسؤولين, ولا يعطيه من الاهمية الا ما يناسب مؤهلاته وقدراته المحدودة... كانت القبس لسان حال السراج تنقل خطبه وتغطي اخباره وتتغزل بمكارم اخلاقة!!
تناولت غادة حيدر جانبا هاما في شخصية غسان زكريا وهو جانب السمسرة ... ففي فصل بعنوان " السمسار " تقول غادة : "كانت السمسرة ولا تزال تجري في عروق غسان زكريا, الذي يرهن كل شيئ نظير المال, وكان من الطبيعي ان يستغل علاقته بعديله (السلطان الاحمر) ليحقق ثروات من خلال العمولات, وهل كان -وقتها- اصلح من غسان لتنفيذ مثل هذه الصفقات؟؟
ذات صباح سعى الى غسان مليونير امريكي من اصل سوري هو السيد (نجيب منهل) يطلب منه التوسط لدى عديله في مشروع كبير للتنقيب عن النفط في سوريا, مقابل (عمولة) سال لها لعاب غسان وزوجته واختها, كانت زوجة المليونير (هند صلاح خانكان) على معرفة قديمة باهل زوجته الاكراد وقد دلوها على غسان, ليكون واسطة العقد في تحقيق الصفقة وفي تغطية اخبارها في الصحف وتصويرها كمشروع وطني قومي يهدف الى خدمة الشعب وليس (الاثراء) على حساب الشعب.
بدأ غسان يشن حملة صحافية يلمع فيها المليونير الامريكي, فيصفه بالرجل الوطني المخلص والوقور, الصريح, الكريم, المعطاء, الذي ما ترك امريكا الى دمشق الا حبا في سواد عيني غسان وزوجته, وسطر زكريا ودبج مقالاته ومقالات في اهمية استخراج النفط السوري على يدي المليونير الامريكي-السوري جيم, لان هذا (يقوي الجيش ويسلحه لمحاربة اسرائيل) كما ورد في كتاب زكريا, فالرجل -على حد تعبير زكريا- "يملك الملايين من آبار نفطه في تكساس وهو ما كان له ان يتكبد كل هذا العناء والجهد والانفاق الهائل من اجل سعي وراء قضية خاسرة".
نجح غسان في استصدار (رخصة) للمليونير المذكور للبحث عن النفط في (قرتشوك) قرب دجلة, لكن زكريا وجد في طريقه (زكريا) آخر, يريد لنفسه حظا ونصيبا من العمولة, لانه -مثل آخرين- لم تنطل عليه مدائح زكريا في الرجل والحديث المكرور الممجوج عن الوطن والوطنية... كان ذاك هو (عبد الباقي نظام الدين) -وزير الاشغال العامة والمواصلات في حكومة صبري العسلي ... الذي حقد عليه زكريا كثيرا, حتى وجه ابنه (احسان) تهمة قبول الرشوة سيارة كاديلاك نظير ان يوقع الوزير رخصة الاستثمار, ووصف زكريا عبد الباقي نظام الدين بانه (قليل الخير) و(جشع) وكان يطمح الى اكثر من سيارة ورشوة, لكنه سرعان ما صحح هذه المعلومة واعتذر عنها في عدد لاحق من سوراقيا بعد ان هددته عائلة المذكور بالمقاضاة, فنشر اعتذارا سخيفا يقول فيه انه لم يقصد التعريض بالرجل, وان السيارة الكاديلاك مشتراة من وكالة للسيارات في دمشق وليست مهداة لابن الوزير من المليونير التكساني, اما كيف يصف غسان الرجل بالجشع ويتهمه بقلة الخير وقبول الرشوة ثم يقول انه لم يقصد الاساءة اليه فطريقة درج غسان على انتهاجها في ابتزاز الاخرين, فان قرعوا رأسه وهزوا له السوط, سارع الى الاعتذار بوقاحة قل نظيرها, ومن يتصفح (سوراقيا) يجد بين كل عدد وعدد اكثر من نموذج ومثال.
لم يكن غسان -يومها- يرضى ان يهزم امام (وزير) كان يحلم بالكوميشين, يتشارك به مع السراج, فسارع الى ارسال شقيقة زوجته الحسناء (ملك) الى مدير المخابرات, وكانت ملك -كما يعترف غسان نفسه في مروياته- عشيقة للسراج (تساكنه) - على حد وصف زكريا, وتم الاتفاق على ان تكون حصة الاثنين غسان وملك مليون ليرة سورية (كوميشين) وكانت في ذلك الوقت تعادل ثروة طائلة !!! ولكن ملك كان لها رأي آخر... كانت تريد الاستئثار بالمليون لذا سلطت (غسان الالشي) -ابن رئيس وزراء سوريا الاسبق جميل الالشي- على غسان زكريا, فافهمه ان السراج يعد له (خازوقا) وانه من الافضل له ان يهرب الى بيروت... لم تنطل اللعبة على غسان, طيرها في تقرير سري الى رئيسه عبد الحميد السراج الذي استدعى الالشي للتحقيق... ونترك غسان زكريا يكمل الرواية.
تمهل سامي جمعة, استدرت لارى سبب تطلعه المستمر في المآة الصغيرة, فوجدت ان سيارة اخرى تلحق بنا وفي مقعدها الامامي كان صهري تاج الدين الخياط, وعلى ما يبدو كا "ابو سمير" لا يريد ان تضيعنا السيارة فسائقها لم يكن يعرف اين نتجه.
لم يحاول ان يكلمني, كنا اتفرس وجهه واردد في بالي:" هذا هو اذن سامي جمعة (ابو سمير) الذي يرعب الناس, يقتل دون هوادة"... احسست بالتقيؤ, وبالم يعتصر معدتي, لم تطل رحلتنا فمن شارع عبد الرحمن الشهبندر الى شارع الروضة ... رمية حجر...
بسرعة اتجه سامي جمعة بالسيارة الى احدى البنايات, الصقها بالجدار سادا الباب علي, فطلب مني النزول منها من الطرف الايسر, دافعا بي الى اجتياز الشارع والدخول الى بناية طالما وصلتنا اخبارها في بيروت, وقرأت عنها في "صدى لبنان" و "الحياة" للشهرة التي لحقت باقبيتها ولحفلات التعذيب الطويلة التي مورست خلف جدرانها.
نزل سامي جمعة امامي, فاذا بقبوين مفتوحين امامنا, مقعدان خشبيان في وسطهما ومنضدة خشبية نخرها السوس في الزاوية, جلسنا صهري وانا على المقعد الخشبي, وبدأت اتفحص المكان بعيني, حيطان عارية وسخة, كلحت من الرطوبة, يصطدم الضوء الشحيح المنبعث من لمبة كهربائية بخيوط العنكبوت, تختلط روائح دخان السجائر مع روائح الرطوبة النتنة.
كان السكوت يهدم الاعصاب, دقائق الانتظار تمر ممضة, احسست بحبات عرق بارد ترصع جبيني, مسحتها بحركة عصبية, لحظات, سمعنا صراخا متقطعا, ساد بعده صمت بليد, فجلبة, دعسات متسارعة, واحد نزل مسرعا ودخل القبو الايسر, وآخر كان يحمل سوطا يضربه على جزمته وهو يصعد السلم, دقائق ودخل سامي جمعة علينا:"تفضلا" قال بنبرة هادئة.
لحقنا به الى مكتب في آخر الممر, كنت الاول في الدخول, وصهري خلفي, فاذا بي وجها لوجه امام عبد الحميد السراج الرجل الذي كنت رأيته مرتين: مرة في مطعم مطار المزة ومرة ثانية في فندق اكسيلسيور في بيروت.
مد لي يده مصافحا, جلسنا قبالته, بالكاد نسمع صوته وهو يعتذر لنا على اسلوب احضارنا, "فظروف عمله ضاغطة" ثم نظر الي وقال: ما هي قصتك مع غسان الالشي؟؟
رويتها له كما حدثت, ولم آت على ذكر مقابلتي له لاكرم الديري ولبرهان قصاب حسن في ثكنة الشرطة العسكرية في البرامكة, واعتقد انه فهم علي لانه رمقني بابتسامة خبيثة وقال :"اذن لم تقابلني في اي مكان؟".
"لا.... و"
لم يدعني اكمل , فكر برهات,
كتب : أسامة فوزي
التقيت خلال زيارتي الاخير لمدينة لندن بالزميلة الدكتورة غادة حيدر الصحافية السابقة في مجلة سوراقيا اللندنية والتي اعتمد عليها غسان زكريا صاحب المجلة في مطلع الثمانينات في كتابة اكثر المقالات فضائحية في مجلته والتي اكسبت المجلة انذاك هويتها كمجلة فضائح تعتمد على الابتزاز بدرجة اساسية ... ولشدة دهشتي قدمت لي غادة حيدر نسخة من كتابها الجديد " اللي استحوا ماتوا ... فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية " الذي صدر في لندن عن دار زوراكيا للنشر وهي دار قالت غادة انها أسستها في العاصمة البريطانية مؤخرا .
تتصدر غلاف الكتاب رسمة لغسان زكريا وهو يضع قبعة امريكية على راس ابنته أور نينا ... وقد سألت غادة حيدر عن مغزى هذه الرسمة وهذا الغلاف فقالت ان الغلاف يلخص مسيرة غسان زكريا الصحافية والتي تقوم على حد قولها على ثلاثة محاور هي : الابتزاز والتجسس والتجارة والهتك بالاعراض ... وتقول ان معظم القضايا التي رفعت على غسان زكريا في المحاكم واخرها القضية التي رفعها وربحها الصحافي جهاد الخازن الذي اتهمه غسان زكريا بالقوادة للامير خالد بن سلطان .... وتضيف غادة التي كانت صديقة مقربة من أورنينا بحكم عملها مع ابيها غسان ان صور اورنينا نشرت في مجلة سوراقيا بسبب وبدون سبب اكثر من صور صاحب المجلة نفسه ... وقالت ان اصرار غسان انذاك على نشر صور بناته وزوجته ليلى في المجلة دون سبب يذكر كان من بين اسباب الخلاف الذي وقع بينه وبين غادة حيدر ... والذي انتهى باستقالة غادة من سوراقيا والتحاقها بجريدة اسبوعية تخصصت في الهجوم على شمس الدين الفاسي والصحف التي اصدرها او مولها في لندن وعلى راسها مجلة سوراقيا .
والممتع في كتاب " غادة حيدر " الجديد أنه يتناول فضائح العمل الصحافي واسراره في اوروبا من خلال تتبع مسيرة غسان زكريا الصحافية منذ ان عمل في التجسس لمخابرات عديله عبد الحميد السراج الى ان اصبح يتجسس لمن يدفع اكثر خلال عمله في مجلة الدستور التي اصدرتها المخابرات العراقية في لندن ... ثم بعد ان اصدر مجلته " سوراقيا " باموال حصل عليها من عدة مصادر مشبوهة كان اهمها الامير تركي والشيخ الفاسي ... ولعل هذا يفسر ظهور صور الامير وزوجته هند وجميع اولادها وبناتها في مجلة سوراقيا بمناسبة ودون مناسبة مع ان سوراقيا ليست مجلة " اجتماعيات " بل هي مجلة سياسية كما يقول صاحبها .... والطريف ان غسان زكريا انقلب على عديله بعد ان طلق غسان زوجته الاولى فاصدر كتابا بعنوان " السلطان الاحمر " اتهم فيه عديله عبد الحميد السراج الذي حكم سوريا في عهد الوحدة بأنه كان يعمل حارسا لمحل الدعارة في حلب .... ومن يقرأ مقالات غسان في مجلته سيجد الكثير من هذه الاتهامات التي يوجهها لخصومه فكلهم قوادون وكلهم يقودون على زوجاتهم ... بل وتباهى غسان في احدى مقالاته بأنه اعتاد مواقعة الخصوم من الخلف وان ركبهم احمرت من الركوع امامه اثناء قيامه بالفعل الجنسي بهم ...الخ .
وكمحاولة منها لتحليل شخصية غسان زكريا الانتهازية ... حاولت غادة حيدر في الفصل الاول من الكتاب رسم صورة مقربة عن غسان زكريا ... حين كتبت تقول : "
من يدخل الى مكتب غسان زكريا في العمارة التي اشتراها باموال الامير تركي في جزيرة الكلاب بلندن وجعلها وكرا لمجلته ستواجهه صورة زيتية لزكريا وهو يركب صهوة فرس ابيض كما نبلاء بريطانيا وفرسانها, ليس لانه فارس مغوار, فهو لم يركب في حياته حتى حمارا وانما فقط لانه مصاب بمرض نفسي اسمه الاحساس بالعظمة, وهو تعبير عن نقص عانى منه المذكور بين اقرانه وظل على هامش الحياة, لا يجد نفسه الا في اعمال المخبرين, وهذه هي مهمته الاساسية التي قام بها في زمن السراج وظل بعد ذلك يقوم بها وهو (اجير) لسليم اللوزي قبل ان (ينط) الى لندن فيحترف مهنة التسول ويعتاش على فتات موائد شمس الدين الفاسي, الذي هو -بدوره- يعتاش على فتات الاخرين.
تضيف غادة حيدر : "نجح غسان زكريا في ان يصبح (فارسا) ولكن لحمار اسمه (سوراقيا), مطبوعة قامت وتقوم على اكتاف عدد من الكتاب والصحفيين المحترفين من ذوي المبادئ, استغلهم غسان لابتزاز الاخرين افرادا ودولا وشركات وحكومات, وخرجو -كلهم- من (المولد بلا حمص), اللهم الا بسمعة (وسخة) جعلتهم في القوائم السوداء لاكثر من قطر عربي, ومعظمهم لم يحصلوا من غسان حتى على مرتباتهم الضئيلة, التي كان يسرقها منهم ويكنزها في بنوك خارجية ويحولها الى عقارات وسيارات وارصدة لم تنجح في ان تجعل من هذا التافه رجل اعلام او رجل صحافة او رجل مجتمع
ولد غسان احمد وصفي زكريا في الثلاثينات من اب (شركسي) عمل في عدة وظائف حكومية قبل ان يتوفى عام 1964 عن 75 عاما, وهو مهندس زراعي تخرج من المدرسة الزراعية في استانبول عام 1912 وعمل مدرسا للزراعة في مدرسة سلمية ومفتشا لاملاك الدولة في سورية حتى 1933 ثم مستشارا زراعيا لليمن والعراق والاردن ومفتشا عاما للزراعة في سورية الى ان تقاعد عام 1950 , وقد حاول ولده غسان ان يبتز اليمنيين ولهذه قصة جديرة بان تروى فيما بعد !!
احترف العمل (المخابراتي) منذ كان طالبا في الجامعة الامريكية في بيروت, يدرس التاريخ في النهار ويكتب التقارير في الليل, وكان واحدا من ثلاثة مخبرين غرسهم عديله عبد الحميد السراج في بيروت
للتجسس على القوميين الاجتماعيين في لبنان, طلعت صدقي, الضابط في الاستخبارات السورية وبرهان ادهم, الذي تولى رئاسة المكتب الخاص للشؤون اللبنانية الذي شكله عبد الحميد سراج, لكن (زكريا) كان اكثرهم حظوة لدى السراج, فهو عديله, وهو الى جانب ذلك صحافي, تولى ادارة شؤون جريدة القبس من خالته (راسمة) ارملة نجيب الريسوهو ايضا -وهو الاهم- دعي, قادر على اقناع القوميين الاجتماعيين انه احرص على الحزب من انطوان سعادة نفسه!!! وهذه (خصلة) تميز المذكور حتى كتابة هذه السطور, حيث يجعل علاقته بالحزب (غطاء) يتستر تحته ويبتز باسمه ويضرب بسيفه, مما جعل جميع الذين يحترمون انفسهم من القوميين يقاطعون منشوره وكان آخرهم (جان دايه) الذي (تلوث ) بعد ارتباطه بسوراقيا ... ولهذه الحكاية (حكاية) سنرويها فيما بعد.
عرف زعران دمشق (غسان زكريا) -الشاب الشركسي الاشقر- من صولاته وجولاته في خمارات المدينة وحاناتها التي يتردد عليها المثقفون والحزبيون, وكانت علاقة زكريا -انذاك- بالسفارة الامريكية جد معروفة, حيث كان زكريا (مخبرا) في السفارة المذكورة يقدم تقاريره اليومية عن النشاط السياسي والحزبي والعسكري في البلاد للسفير الامريكي في دمشق جيمس موس من خلال مساعدته (فرنسيس سيموبولوس), التي اتخذت من زكريا عميلا وعشيقا تتلقى منه في الفراش ما كانت تتلقاه الجاسوسة الحسناء (كريستين كيلر) من وزير الدفاع البريطاني, وكان زكريا هو حلقة الوصل بين عدد من الدبلوماسيين ورجال الاعمال والسفارة الامريكية, نذكر منهم الدبلوماسي نهاد ابراهيم باشا ورياض ابو السعود وزهير الشطي وانطون مشاقة, وكانت جلسات هؤلاء واحاديثهم ونشاطاتهم واخبارهم واخبار ما يعرفون تنقل اولا باول الى السفارة الامريكية من خلال الشاب الاشقر, الذي كان يفتح بيته قبالة قصر حالد العظم في ساحة ابي العلا في حي ابو رمانة لزيارات (الشباب) الذين كانوا يقضون اوقاتا مسلية مع الشاب الاشقر وشقيقاته!!! ... وهم يتونسون... وهو يجمع منهم ما تيسر من اخبار.
تضيف غادة حيدر :لم يكن نفوذ المخبر غسان زكريا -آنذاك- يزيد عن نشاطاته الاستخباراتية العادية, المعروفة لدى الشباب في دمشق, وكان رواد نادي (مطار المزة)-وكان آنذاك من اشهر النوادي الليلية في دمشق- يرون غسان وهو يتردد على النادي يوميا, يجلس في زاويته ليستمع باذنه اليمنى الى فرقة (نينوباليرمو) الموسيقية ويترك اذنه اليسرى ليسترق بها السمع هنا وهناك, حيث كان النادي محطة لانظار السياسيين ومكانا لاجتماعاتهم, فيه يلتقي اديب الشيشكلي بعصام المحايدي بصبحي فرحات بحسن عطار بعبدالله محسن. وفي هذا المطعم نجح غسان زكريا في اصطياد عبد الحميد السراج, الضابط الشاب, الهادئ, الذي كان يصعد في سلم الشهرة بسرعة و ولان انف السفارة الامريكية لا يخطئ فقد (شمت) رائحة الخطر المحدق بالوجود الامريكي في المنطقة جراء اتساع نفوذ وشعبية عبد الناصر وتعلق الضابط الشاب في سوريا به, وكان (السراج) واحدا من الضباط الذين يجاهرون بالولاء لعبد الناصر, لذا لم يكن عجيبا ولا غريبا ان يطلب غسان زكريا من فؤاد غميان -صاحب المطعم- ان يقدمه الى عبد الحميد السراج, ولم يكن مدهشا ايضا ان يزوجه (ملك) اخت شقيقته, ليحكم -مع السراج- من وراء الستار!!
لم يكن (شكل) غسان زكريا جديدا على عبد الحميد السراج, فقد كان السراج يراه -يوم كان السراج دركيا وحارسا لسوق البحسيتا بحلب- يدلف مع بعض الرجال الى السوق, حيث مضاجع بنات الهوى وغلمان الهوى ايضا, وكانت (حلاوة) هذا الشاب الاشقر تثير آنذاك حسد بائعات الهوى لما رأين ان هذا الشاب القادم من دمشق يسرق منهن الزبائن, وهناك -في حلب- تعرف غسان زكريا بزوجته الاولى الكردية الاصل ابنة (علي آغا زلفو) وشقيقتها (ملك) التي اسرت قلب عبد الحميد السراج -بعد ذلك- واصبحت سيدة سورية الاولى طوال حكم عبد الناصر.
لم يكن السراج يثق الا بزوجته وانسبائه فطبيعة النظام القائم آنذاك كان يحتم عليه ان يكون حريصا, فالضباط القوميون يتكاثرون في اوساط الجيش والانقلابات العسكرية المتعاقبة بدءا بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 افقدت الحياة التشريعية والتنفيذية والقضائية استقرارها واصبحت ابواب البلاد مشرعة لكل الاحتمالات وفي ظل هذا المناخ بدأ (حزب الشعب) يتحرك في اوساط العسكريين ممثلا بسامي الحناوي ورشدي الكيخيا, وكان هذا الحزب يدعو الى الوحدة مع العراق وكانت علاقة اللواء الحناوي مع نوري السعيد اكثر من وثيقة, ولم يكن عبد الناصر راضيا عن هذه العلاقة, وكان يرى فيها امتدادا للنفوذ البريطاني في المنطقة, الداعم آنذاك لحكومة نوري السعيد, وفي المقابل كان البعثيون يعارضون هذا التوجه ويعتبرونه عودة الى الاستعمار تحت شعار الوحدة وكان البعثيون يتهمون الضالعين برفع شعار الوحدة مع العراق بالتجسس, واستطاعوا ان يدفعوا ببعض ضباطهم الى الصفوف الاولى في سدة الحكم, على رأسهم العقيد عدنان المالكي, الذي (فرمل) نفوذ الضباط الموالين للحناوي في الجيش من خلال حركة تنقلات واسعة اجراها في صفوفه بصفته رئيس الشعبة الاولى (الاركان), وجاءت حادثة اغتيال عدنان المالكي في الملعب البلدي بدمشق (بعد ظهر يوم الجمعة 22 من نيسان ابريل 1955) لتدفع بالسراج الى الصفوف الاولى في القيادة ولترفعه الى مصاف الفئة الحاكمة المتحكمة... ورفع -معه طبعا- الشاب الشركسي الاشقر الذي كان السراج يستأنس اليه كثيرا ويستلطفه!!!
كانت المواجهة مع الحركة السورية القومية التي اتهمت بجريمة اغتيال عدنان المالكي مواجهة دامية قادها عبد الحميد السراج الذي كان الحاكم الفعلي لسوريا اعتبارا من نيسان ابريل 1955 وحتى ايلول سبتمبر 1961, ولم تكن المواجهة سهلة, فالخصم حزب مدرب يتطلع بطموح الى تسلم انظمة الحكم في المنطقة واعادة تشكيلها ضمن رؤية خاصة وجدت تجاوبا لدى قطاع كبير من المثقفين, والحاكم رجل عسكري محافظ كان يرأس الاستخبارات العسكرية (المكتب الثاني) في سوريا يدعمه جمال عبد الناصر.
في اطار تصفية للخلافات العائلية بين غسان زكريا وعديله السابق عبد الحميد السراج -الذي يرأس حاليا شركات التأمين في مصر والذي قيل انه رفض دعم غسان زكريا في مشوره الصحفي الابتزازي وطرد ابنته (ابنة غسان) من زوجته الاولى (شقيقة ملك) لما حملت اليه طلب والدها المتصعلك في لندن-, اصدر غسان زكريا كتابا بعنوان (السلطان الاحمر) نشره على حلقات في سوراقيا ثم جمعه في كتاب طرحه في اسواق لندن فلم يجد من يشتريه لان صاحبه (قزم) التاريخ وزور فيه ومسخه, وابس نفسه وعديله السابق عباءة واسعة فضفاضة, جعلتهما احد صناع التاريخ في الشرق القديم وان كانغسان زكريا قد انقلب في رواياته على عديله, فجعله سفاحا... ووضع نفسه في مقابل السفاح رجل فكر وسياسة والتزام ومبادئ يخاصم عديله (الحاكم بأمره) من اجل فكر وحرية واستقلال, وهو الموظف الصغير في جهاز الاستخبارات, الذي غرسه السراج في اوساط السوريين القوميين يفعل بهم ما يفعل... ولا يزال.
في الفصل الخاص بنشأة السراج والذي سماه غسان زكريا (حارس البحستيا) شطب زكريا اية علاقة له بمواخير حلب, واكتفى بالاشارة الى دور السراج كدركي يحرس السوق العمومي, بل واتهمه بعلاقة مع مومس من هذا السوق اسمها (ناديا), نقلها معه الى دمشق وعاشرها معاشرة الازواج في شقته المتواضعة في الزقاق الصغير المتفرع عن شارع 29 ايار بمنطقة الصالحية في دمشق وقتلها عام 1959 على ضفة نهر بانياس المتفرع من بردى!!... الذي عرفوا غسان زكريا آنذاك قالوا ان ناديا كانت تنافس غسان على قلب السراج, الذي وجد في هذا الشاب الاشقر حاجته, فما عاد له من حاجة مع ناديا... ويقال: ان غسان زكريا هو الذي ابلغ عن فقدان (ناديا) وهو الذي اكتشف جثتها على النهر!!
لم يكن عبد الحميد السراج سيئا, على صعيد وطني, فغسان زكريا نفسه يعترف بان السراج كان ناقما على حكام سوريا لانهم حرموه من حق القتال في فلسطين, والسراج -كما ورد في السيرة التي خطها غسان رمم الجراحة التبشيعية التي اجراها على صاحب السيرة- رجل عصامي, دخل الشرطة كدركي في حلب, وحضر لامتحان البكالوريا وهو في الخدمة وانتسب الى الكلية العسكرية في عام 1947, وكان على رأس الشباب الحمويين الذين طلبوا الالتحاق بجيش الانقاذ للقتال في فلسطين, لكن السراج من موقعه في الحكم ومن تحالفاته مع عبد الناصر وجد نفسه في معركة حياة او موت مع حزب قوي قادر على التأثير بالجماهير, لذا امر بمداهمة منزل (جوليات المر) ارملة انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وطارد جورج عبد المسيح -زعيم الحزب آنذاك- الذي نجح في الفرار من دمشق وصفى نفوذ الحزب السيوعي بعد مقتل فرج الله الحلو, لكن القوميين نقلوا حربهم الى لبنان, مستغلين روح العداء بين (ناصر) و (شمعون) فاصدروا صحفهم اللاهية (صدى لبنان) و (الزوابع) وغيرها, وكانت منشوراتهم ترسل على ظهور الحمير والبغال عبر منحدرات بعلبك وسهل الزيداني وسرغايا لتوزع في دمشق.
غسان يعترف في كتابه ان تسرب هذه النشرات الى دمشق كان يقض مضجع عبد الحميد السراج فحار كيف يمنع تسربها, لكن (زكريا) لم يذكر في الكتاب انه كان واحدا من الجواسيس الذين غرسهم السراج في بيروت لكتابة التقارير ورصد انشطة القوميين والايعاز بما يمكن عمله لمحاصرتهم, وتمت عملية تهريب غسان زكريا الى بيروت من خلال سيناريو كتبه عبد الحميد السراج !!
الجاسوس
كان عبد الحميد السراج يعلم ان مهمة (غرس) جاسوس له في صفوف السوريين الاجتماعيين النشطين في بيروت ليست عملية سهلة, اولا لانه يصعب ايجاد (العميل) المناسب, القادر على آداء الدور بالكامل وثانيا لان السوريين الاجتماعيين انفسهم عيونا داخل اجهزة السراج, لذا تفتقت عبقرية السراج عن سيناريو يقوم ببطولته الاشقر غسان زكريا, وكانت الخطة تقوم على ايهام السوريين الاجتماعيين بوجود خلافات عائلية بين السراج وغسان على ارضية انتماء الثاني للحزب, ثم التمهيد لفرار المذكور الى بيروت ضمن مسرحية ايضا فيها الكثير من الدراما!
في شمس الخامس والعشرين من تموز يوليو 1955 بدأ غسان زكريا ينفذ السيناريو بالتعاون مع شقيق زوجته (خالد)... بعث السراج بعدد من عناصر المكتب الثاني -الاستخبارات- الى الحارة التي يسكن فيها غسان (الطابق الارضي من مبنى مفيد الحسيني) الكائن بشارع ركن الدين, ليوهم سكان الحي بان زكريا مطلوب... كما بعث بعدد مماثل من المخبرين الى بنك لقاهرة في ساحة يوسف العظمة في منطقة الحريقة, حيث يعمل غسان زكريا, لتنتشر (الاشاعة) في دمشق وتصل فورا الى بيروت... غسان زكريا مطلوب لمخابرات عبد الحميد السراح ... كان السيناريو متقنا لعب فيه السراج دورا, ولعبت فيه زوجته ملك دورا, وقامي بالباقي غسان وشقيق زوجته (عديل السراج) خالد... كانت الاسرة كلها مشتركة في السيناريو لان نجاح غسان في مهمته هو نجاح للاسرة في الاستيلاء على الحكم والبطش بالمعارضين المحتملين في صفوف الحزب.
الحكاية بعد ذلك معروفة رواها غسن في كتابه عن (السلطان الاحمر) مع الكثير من البهارات حتى يبدو في صورة مناضل, كاسترو عصره وزمانه, ولنتركه يكمل المشهد الثاني من الفيلم:
"تسلقت الجدار العالي الفاصل بين البيت والحديقة المتصلة بشارع ركن الدين ووليت الادبار متجها نحو منطقة الحريقة حيث كان فرع البنك في ساحة يوسف العظمة... لم يبطئ زوار الفجر قبل ان يطرقوا الباب فتحته (ملك) زوجة السراج فدهش ابراهيم ظاظا لما رآها تستقبله, انعقدت الكلمات على لسانه برهات ثم بادرها متسائلا:"ماذا تفعلين هنا؟" فتجمع الحنق في صوتها :" الا تدري ان الذي جئت تطلبه هو صهري زوج اختي".
علا وجه الرجل حياء غريب وبدأ يتوسل الاعذار وادعى انه لم يكن يعرف ذلك ثم عاد يسألها عني فاجابته انني مسافر منذ اربعة ايام لذلك جاءت الى شقيقتها لتبقى معها فلا تتركها في البيت وحدها اثناء غيابي واتبعت ذلك بان دعته لتفتيش البيت فاعرض واعتذر ومشى... وصلت الى البنك وانا الهث, طوال الطريق تجنبت السير في وسط الرصيف, فسرت بمحاذاة الابنية فزعا من ان يخطفني من وسط الرصيف من يترصدني لاعتقالي, فلا يترك لي مجالا للهرب الى داخل البنايات او المحلات التجارية الكبرى.
آخر ما كنت اتوقعه وانا جالس على مكتبي, زائغ العينين, انظر بين الفينةوالفينة الى باب البنك بلهفة, ثم انقله الى الساعة الكبيرة المسمرة على وسط الجدار امامي, فبدت كأنها عين مارد يهددني ويعد لي الدقائق والثواني لحريتي ام اسري, ان يطلع علي صوت مساعد مدير البنك نزار الصباغ (الماركسي الحاقد على الانجليز لانهم سلموا والده الى الوصي على العرش العراقي عبد الاله ورئيس وزرائه نوري السعيد, فاعدم في ساحة الرشيد بتهمة الخيانة العظمى) مهددا ومتوعدا, يكيل لي التهم ويصفني في عداد المتآمرين على سلامة الدولة, مؤكدا في شبه يقين علاقة القوميين الاجتماعيين بالغرب, وان واشنطن ولندن والقوميين قتلة عدنان المالكي.
لقد كان نزار الصباغ يردد كلاما لاكته السن العامة ضمن الحملة المسعورة المدبرة والمنظمة التي كتبها الشيوعيون "الحورانيون" على حناجرهم وفي منشوراتهم وتصريحاتهم ضد القوميين الاجتماعيين, فجاهدت النفس ان لا اعيره اهتماما, تركته يغلي ويفور واقحمت عيني في اعمدة جريدة كانت مرمية على المكتب, فقلبتها بسرعة, مصطنعا قراءتها... اتحايل, فاسترق النظر مرة الى الساعة ... و... مرات الى باب البنك الرئيسي اترقب بصبر دخول خالد لينتشلني من بين براثن الاسر.
خواطر كالومض مرت مختلطة في رأسي... فتهالكت على الكرسي متعبا, وما شعرت الا بيد تربت على كتفي فانتفضت فاذا به خالد زلفو, شقيق زوجتي, فتناولت حقيبة جلدية صغيرة القمتها بطاقة الهوية, لم استأذن من احد لم اودع احد... رميت نظرة اخيرة على مكتبي وخرجت يلحق بي شقيق زوجتي, كنت وقتها اهرب من سجن المزة الى ... الحرية.
طريق دمشق-بيروت كانت مزروعة بالعيون المسنونة, فلقد بث عبد الحميد السراج جواسيسه يترصدون الطرقات, كأنه ما اكتفى بآلاف الذين اودعهم السجون والمعتقلات فاخذ يطلب المزيد.
اقترح علي خالد , ان نتسلق جبل الشيخ الى لبنان, خطف كلامة بسرعة ولم يترك لي مجال للتفكير, اذعنت صاغرا, فكل ما اريده في تلك اللحظات ان اجد من يضيئ في مقلتي الامل بالافلات من قبضة عبد الحميد السراج القاتلة.
سارعنا الى مرآب سيارات القنيطرة (قبل سقوطها في الاحتلال الاسرائيلي باثني عشر عاما) لم نجد الا باصا صغيرا, كان شرط سائقه ان ندفع له سبع عشرة ليرة سورية سلفا قبل ان يدير محركه, فما ان القم جيبه بالمال حتى مضى باتجاه الجنوب الغربي.
كان الباص يطير فوق الطرقات السنجابية, الاشجار والبيوت تركض في الاتجاه المضاد لنا, السرعة الانسيابية انعشت قلبي الكسير, فمددت رأسي من النافذة وتركت الهواء يلطم وجهي, اطلت علينا من بعيد ضاحية "المزة" وسجنها العسكري الرابض على ذروة هضبة فيها, لي خلف جدرانه احبة, سياط الجلادين تنزل على اجسادهم, فمطار دمشق القديم, فالسهول والهضاب المترامية الاطراف, فتل "الكواكب" حيث نزلت الرؤيا على الضابط الروماني شاوول, الذي اصبح بول الرسول فيلسوف المسيحية... ومنه مررنا بسعسع, فامتدت امام انظارنا سهوب خضر وحصون وستحكامات ومخابئ ومرابض المدفعية التي كانت تشكل خطوط دفاع سورية الخلفية...
ردني اختناق صوت المحرك الى رشدي, فقد وصلنا الى مزرعة "الحلس" التي كانت بعض املاك علي زلفو (والد زوجتي) الزراعية الواسعة, فدخلنا, خالد وانا وعر الجولان سيرا على الاقدام, بعد ساعة بلغنا مساكن فلاحي المزرعة الذين تراكضوا الينا مرحبين , بنجل الاغا وصهره.
كان النهار قد انتصف, وعيون الشمس المحمرة تلسعنا بحرارنها, فتطوع احد الفلاحين, كان اسمه محمود, ان يكون دليلنا الى قرية "الدوار" المختبئة في السفح الجنوبي من جبل حرمون (الشيخ) على ارتفاع 2200 قدم عن سطح البحر, فقد شرح خالد له بانه يريد التسلق الى "الدوار" هربا من ابيه الآغا الغاضب عليه بسبب مشاكساته!!
مشيت خلفهما صعدا, غير مبال بالحصى المتناثر تحت رجلي, ولا اعطيت بالا لوعر او لصخر, او لجرح في ركبتي بدا ينزف لما ارتطمت بصخرة تسلقتها, كان دليلنا محمود قصير القامة, نحيف البنية, دقيق الساقين, سريع العدو والتسلق فهو الف منذ صغره الوعر والصخور وحفظ الدرب الى "الدوار" عن ظهر قلب, فامكنه ان يختصر لنا الدرب ويخفف عنا صعوبة التسلق.
كانت الشمس قد نشرت الوية المغيب لم علقت قلوبنا على مشارف "الدوار", وقفت التقط انفاسي اتفقد الجرح النازف في ركبتي, فشدني خالد بذراعي نحو بيت المختار ابو عزالدين.
اشرأبت اعناق من في البيت نحو الباب, ووقفت انظارهم علينا, ولم تمض دقيقة على جلوسنا, حتى سد الباب رجل مربوع القامة,بدين, عريض المنكبين واسع الصدر ضخمه, عرف ابن الآغا, فلف عباءته وارخى جفنيه وحتى رأسه.
"يا هلا ياهلا .. ما وراءك يا سيدنا"
"ما ورائي الا الخير يا مختار"
ما كاد خالد ان ينهي كلامه, حتى اومأ المختار, ان احضروا العشاء. فانتصب خالد واقفا منتحلا الاعذار, بضرورة مغادرتنا بسرعة لانه يخشى ان يتعقبه والده الآغا, وبلباقة دغدغ شعور المختار فبدا زاهيا متفاخرا اذ قال له:
"اعرف ان والدي يصطفيك من بين الاخرين, ولذلك له دالة عليك يا ايا عزالدين, فلا اريد ان اوقعك في حرج معه, فمشكلتي مع كبيرة.. فاتركنا نتابع سيرنا الى "شبعا" في المقلب اللبناني من حرمون وهناك نتدبر امرنا الى بيروت, ولقد تركت لشقيقي الاكبر معن امر تدبير الاشكال وتسويته بيني وبين والدي".
رافقنا صوت المختار حتى منتصف الدرب, حتى اختفى, واختفت معه "الدوار" خلفنا, ونحن نتسلق الصخور فيتدحرج الحصى وراء دعساتنا.
اذكر جيدا, لما مالت الشمس نحو المغيب, كيف انها تركت اشعتها المرتجفة وسط حبال النور, تذهب تلال فلسطين, حت اسرح نظري فيها, ارتاح مسندا ظهري المتعب على صخر اجرد, فيقطع صوت خالد علي نشوتي بالمنظر فاعود امد يدي الى الصخور... واتسلق.
بدأ البرد يسكب في جسدي ارتعاشات رقيقة, واخذ التعب مني مأخذا, وكلما كنا نصل الى جبل ترامت امامنا جبال, وكلما بلغنا قمة اطلت علينا قمم اخرى, وانتصف الليل بنا لا يقلق سكونه سوى هسيس النسيم البارد وصوت طائر ضل مرقده.
تبدى القمر بدرا, من خلال السحب المنتشرة في اعالي الهضاب المتصلة بجبل حرمون, فارسل انواره تتدحرج ببطء على الصخور, فتلقي ظلالها القاتمة تؤلف اشكالا غريبة, تكبر وتصغر, تنفرج وتضيق, تبعا لمرور السحب امام ضوء القمر, فسمعنا فجأة اصواتا بشرية ونهيق حمير وبغال, فكمنا خلف صخرة كبيرة نستطلع, خشيت دسيسة دبرها علينا في دمشق احدهم, فاقامت الشرطة العسكرية السورية موقعا لها في قلعة شيبوب المجاورة لقصر عنتر, والموقعان استعملا في العهود الوسطية كمركز مراقبة واشارية نارية لانذار دمشق من زحف غريب عليها من سهول فلسطين, فيما المؤرخون يعيدون القلعة والقصر الى العصر الآرامي فالكنعاني, حيث كان يعبد فيهما الاله حدد, فتقوم عذارى كنعان وارام بتقديم انفسهن للكهنة في عملية عطاء جنسي تأكيدا لاستمرار الخصب وغسل الذنوب!!
بدت لنا في وسط الوادي مجموعة من الفلاحين اللبنانيين والسوريين, كانوا اوقدوا نارا واكلوا شواء صيدهم, فيما دوابهم ترتاح قبل متابعة السير, فاقترب مني محمود وبصق حنقا وشتم, ومن دون ان اسأل قال: "هؤلاء من قومي يتعاملون مع اليهود, يهربون البضائع منهم واليهم, وهم الان اما في طريقهم الى قراهم او الى فلسطين المحتلة".
انتظرنا فترة ظننتها دهرا, كان هذا الانتظار الممض اصعب علي من كل الارهاب الذي عشته في دمشق والارهاق الذي حل بي وانا اتسلق كتلة صخرية يزيد ارتفاعها عن 3000 قدم عن سطح البحر.
كان ما تبقى من الثلج في الجبل يتكوم على شكل دوائر بيضاء مرمية تحت الصخور ... لم اعد اقوى على تحمل البرد ينخر عظمي, وكان قد حل بي الاعياء فانطرحت على وجهي لا اعي وما استفقت الا وخالد يلطمني على وجنتي ومحمود يفرك يدي ليدفئها.
بقرب قصر شيبوب بدأت رحلة الهبوط (حوالي 2000 قدم) الى "شبعا" (التي تحاصرها قوات اسرائيل هذه الايام) فشعرت انني ملكت الحرية, انني ارتديتها معطفا يقيني من البرد ودرعا على صدري يحميني من الخوف, حتى ان رفيقي في رحلة التسلق والهبوط ما عادا يلحقان بي, صرت ارمي بنفسي على الصخور والحصى, صرت اتدحرج معها اتنشق هواء الحرية بعيدا عن عنف عبد الحميد السراج وارهابه.
كان الفجر قد بدأ يلقي وشاحه على "شبعا" دافعا امامه نسيما باردا, فتراءى لي من بعيد بستان تفاح, فركضت نحوه والجوع يعتصرني وبدأت بقطف حبات التفاح غير مبال بالمواد الكيماوية التي كانت رشت عليها, ثم جلست على كعب شجرة... ارتاح, فاذا بصاحب البستان يطل علينا مستفسرا عمن نكون, ولما عرف فينا ابن الآغا افسح لنا طريق بيته.
ما ان جلس بيننا يسكب لنا القهوة مرة من دل بقي يفقفق على نار هادئة, حتى دخل علينا ثلاثة شبان, قدمنا مختار "شبعا" اليهم باننا :" ابن الآغا علي زلفو وصهره ودليلهما", جلسوا حلقة حولنا, يرمون على وجوهنا نظرات موشاة بالريبة والتوجس, وبعد ان ساد السكوت حرك اكبر الشبان الثلاثة سنا كتفيه, وكان في العقد الثالث من سنيه, ورفع رأسه قليلا وقال مستخرجا كلامه من كعب الذاكرة:
"الست غسان زكريا؟"
تمليت وجهه بسرعة واجبت:
"نعم انا هو"
"انسيتني"
لملم حيرتي المرتسمة على وجهي وتابع:
"انا كنت في عداد الذين مكثوا في بيتك في دمشق ثلاثة ايام ايام الانتخابات النيابية عام 1954"
فجأة بان وجهه اليفا وعرفته, فبدأ يروي كيف كان بيتي في دمشق عامذاك, مفتوحا ليل نهار لمئات الاتين من الوطن الكبير لدعم ترشيح عصام المحايري وعبدالله محسن خلال الحقبة الشيشكلية, ولما انس مني اخذ يخبرنا ان الشرطة السورية اقامت مرصدا على قمة الجبل بين قلعة شيبوب وقصر عنتر لمراقبة المتسللين من الشام الى لبنان, وانه في الثاني والعشرين من تموز تمكن النقيب فضل الله ابو منصور على صهوة فرسه من ان يعبر ومعه مرافقان , اصيبا بجروح من رشاشات اطلقهما عليهما الجنود الذين كانوا طاردوهما مع النقيب من سفح الجبل الى ذروته فاعتقل الجريحان" اما فضل الله ابو منصور فقد نزل الينا واوصاناه الى مرجعيون ومنها الى صيدا وهو الان في بيروت".
احسست بالراحة واني بين اهلي وعشيرتي, ولم تمض ساعة حتى كنا نحن ايضا في الطريق الى مرجعيون ومنها الى صيدا حتى وصلنا بيروت في الخامسة مساء, فتوجهت مباشرة الى مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي في مبنى العازارية الضخم, حيث استقبلني جبران جريح وكان عميدا للداخلية في الحزب, قدمت له تقريرا عن الذي حصل وكيف تسللت من دمشق الى بيروت, اخبرته بما يفعله السراج واعوانه بالقوميين, الذين يذهبون الى السجون ويلاقون اصناف التعذيب ضحايا لمؤامرة لم تكشف ابعادها بعد.
ودعته لاتدبر امري, فاذا بي وجها لوجه مع الراحل سعيد تقي الدين, الذي فوجئ بمآي في بيروت, فامسك بيدي وادخلني الى مكتبه حيث كان وكيلا لعميد الاذاعة, عصام المحايري المرمي في سجن المزة العسكري, يعاني الامرين من جلاده الوكيل في الجيش السوري ماجد شاكر, الذي كان رئيس الشرطة العسكرية اكرم الديري قد اوكله امر التفنن في تعذيبه ليل نهار.
كرت اسئلة سعيد تقي الدين: كيف.. وماذا... واين .. ومتى؟ يقف مني على ادنى التفاصيل, يمتص لفافات التبغ الواحدة بعد الاخرى, يرمي اعقابها بعصبية في صحن الدخان.
ذكرت له كل ما اعرف, استمهلني سعيد برهات, خرج من المكتب وبيده ورقة عليها افتتاحية لجريدة "صدى لبنان" عاد, فرآني اشبك عشري على رأسي وقد ارخيته على المكتب ونمت فتركني هكذا حتى الصباح.
الذي لم يقله غسان زكريا في (روايته) ان علامات الاستفهام الكثيرة احاطت عملية هروبه من دمشق الى بيروت.. الذي لم يقله غسان زكريا هو ان (جبران جريج) -وزير الداخلية في الحزب- قد حقق معه مطولا حول وقائع كثيرة وطلب منه اجابات اكثر من علامات استفهام ظلت قائمة... الذي لم يقله غسان ان الحزب وضعه تحت المراقبة 24 ساعة لمدة ستة اشهر هي المدة التي قضاها في بيروت متجسسا على الحزب ورجالاته قبل ان تصدر اليه الاوامر بالعودة الى دمشق... كانت مهمة غسان زكريا في بيروت صعبة بعض الشيئ.. كان عليه ان يوقع باخطر رجلين في الحزب هما سعيد تقي الدين وغسان جديد... الاول كان مسؤولا عن اذاعة الحزب, التي كانت تشن حملة شعواء على النظام الحاكم في سوريا... وتصدر المناشير التي تطبع في بيروت وتنقل على ظهور البغال الى دمشق لتوزع فيها, والثاني (غسان جديد) ضابط مشهور بالشجاعة قاد معارك باسلة في فلسطين عام 1948 استحق على اثرها وسام (امية).
كانت مهمة غسان في بيروت مهمة استخبارية بالدرجة الاولى, اما التنفيذ فكان موكولا لاثنين من رجال السراج كان قد غرسهما في بيروت , الاول (طلعت صدقي) والثاني (برهان ادهم).
تجنبا للشبهة كانت تقارير غسان زكريا ترسل بالبريد العادي الى عنوان في دمشق, في تقاريره وصف غسان الاماكن التي يتردد عليها سعيد تقي الدين وغسان جديد وحدد مقهى (لاروندا) -في ساحة البرج- كمكان مناسب للقيام بعملية اختطاف الرجلين, واقترح الاتصال بمشهود دندش ليرتب العملية مقابل مبلغ من المال.
الحكاية بعد ذلك اوردها غسان في كتابه, بعد ان اخرج نفسه منهاطبعا... يقول غسان:" اعد السراج العدة, ارسل احد عناصره وكان حمويا (لم يعد في الذاكرة مطارح لاسمه) اوعز اليه بالاتصال بمشهور دندش وغيره من شباب الهرمل (البقاع) في محاولة لاغرائهم بالمال ليساعدوه على خطف سعيد تقي الدين وغسان جديد الى دمشق.
ماشى مشهور دندش وصحبه رسول السراج في خطته, التقوه في مقهى كان يقوم مكان "لاروندا" على زاوية الطرف الجنوبي من ساحة البرج في بيروت, سمعوا له قولته, ساوموه وساومهم حتى اتفقوا على ان يدعو مشهور دندش سعيد تقي الدين وغسان جديد الى العشاء في احد مطاعم السمك قرب بلاج "السان ميشال" , فيحضر الحموي الى المطعم ومعه مبلغ خمسين الف ليرة لبنانية (كان هذا المبلغ يعد ثروة هاتيك الايام) يسلمه فيستلم الرجلين.
دخل مشهور دندش المطعم ليلتها, وتوزع من معه وكانوا اربعين شخصا, على طاولات ركزت في زوايا المطعم الاربعة, فبدوا كانهم زبائن جالسين الى موائد الطعام, بينما انتقى دندش طاولة في وسط المطعم, فجلس اليها اربعة كانوا اشتركوا في التفاوض مع رسول السراج.
حسب الموعد المضروب دخل الحموي المطعم, فاقترب من طاولة دندش, رمى السلام, وابتسم فبان كبير الانف بارز الحاجبين, تغور تحتهما عينان واسعتان لا توحيان بالثقة, اشعث الشعر, لحظات لحق به اثنان قدمهما وجلسا, فدارت العيون على المكان بريبة وحذر, مال الحموي على مشهور دندش يسأله هامسا :"اين البضاعة؟".
رسم مشهور دندش على وجهه ابتسامة اوحت للحموي بالاطمئنان وقال:" البضاعة لن تصل الا بعد ان نشرب كأس عرق... فالليل ما زال باوله", ودارت اقداح العرق تتراقص بين الاصابع, ودارت معها الرؤوس ثملى, فما شعر الحموي ومن معه, الا وقد انتصف الليل وخفتت الاضواء في المطعم وتوزع "الزبائن" على بواباته شاهرين مسدساتهم, لم يقو الثلاثة على الحراك, استدار الحموي نحو مشهور دندش محاولا استجلاء الامر, فاستل دندش مسدسه من خاصرته ووضعه على الطاولة فارتد الحموي وقد بدأ الخوف يتكمش في ملامح وجهه.
فجأة دخل غسان جديد صائحا لنشرب كأس انطون سعادة , فانتفض رفيق الحموي واستدارا نحو الصوت فاذا بغسان جديد يعرفهما: النقيب راشد قطيني نائب السراج في جهاز الاستخبارات والملازم اول عبد الوهاب الخطيب ساعد السلطان الاحمر الضاربة وجلاده المفضل, خارت قوى راشد قطني وانتابت الملازم الخطيب رعدة الذعر وبدأ الاثنان يتوسلان غسان جديد , اما الحموي فقد كان ثملا فبقي جالسا لا يقوى حراكا.
فشلت مهمة غسان زكريا في بيروت واوقع (عديله) في حرج كبير جعله يطير بنفسه الى العاصة اللبنانية ليلتقي الامير مجيد ارسلان وزير الدفاع, لعله يساعد في استرداد الضابطين وكان له ما اراد, وجاءت زوجته الى بيروت لتقنعه بالعودة الى دمشق مؤكدة له ان السراج غفر له... كان زكريا خائفا, ظل السراج يسدد ايجار غرفته في نزل (اوغاريت) في ساحة الدباس ببيروت, هذا (النزل) الذي اختاره زكريا للاقامة لانه تحول الى منتدى -كما يقول زكريا نفسه- يلتقي فيه الذين افلتوا من بطش عبد الحميد السراج... كانت آخر الاخبار تصل الى النزل من دمشق فيطيرها زكريا الى دمشق مرة اخرى... الى ان صدرت الاوامر لغسان بالعودة الى دمشق.. فعاد اليها يجرر اذيال الهزيمة.
وصل غسان زكريا الى دمشق ليجد في انتظاره مهام اخرى, يساعده فيها هذه المرة نسيبه عبد الكريم الدباح الدندشي, الذي يعترف غسان نفسه انه كان يسرق اموال القوميين الاجتماعيين في البرازيل والارجنتين -حين عمل هناك بالسلك الدبلوماسي- التي كان يحملها الى عائلات الاسرى في سجون السراج في دمشق, ولكن هذه الاموال لم تصل وكان عذر الدندشي ان هذه الاموال (طارت9 وهو على ظهر الباخرة التي نقلته من مرفأ جنوا في ايطاليا الى مرفأ بيروت.
تفرد غادة حيدر في كتابها فصلا كاملا عن الدور الذي لعبه غسان زكريا في دمشق فبعد استقرار الاوضاع نسبيا لعبد الحميد السراج, جاء الدور على بطانته من الاقرباء والانسباء والاقارب ليحلبوا البلاد ويبتزوا العباد باسم قريبهم, وكان لغسان زكريا اليد الطولى في هذه المهام وهو استاذ في هذا الفن, تلقن دروسه الاولى ايام كان يتردد على سوق الساقطات وينافسهن في حلب, الى خبرته في المساومة التي اكتسبها في (نادي المزة) وكانت وظيفته في جريدة (القبس) المملوكة لخالته راسمة ارملة نجيب الريس, وتحت ستار العمل الصحافي لعب غسان زكريا ادوار استخبارية ومثلها في الابتزاز والارتزاق لعل اهمها حكايته مع (الملك حسين) وحكايته مع المغترب الامريكاني السوري الاصل نجيب منهل المعروف باسم (جيم).. الحكاية الاوليى نموذج من ادب الابتزاز السياسي... والحكاية الثانية نموذج من ادب الابتزاز المالي واستغلال النفوذ وكانت حكاية (جيم) هي القشة التي قسمت ظهر البعير في علاقة غسان زكريا بعديله عبد الحميد السراج, لان الرجلين تبادلا الاتهامات فيما يتعلق بالصفقة وبحقيبة يقال انه كان فيها مليون ليرة سورية اختفت, فيما اتهم غسان زوجة عديله (ملك) بسرقتها.
بوفاة نجيب الريس خلا مقعد التحرير في جريدة (القبس) الدمشقية ولم يكن بامكان ارملته (راسمة) ان تدير العمل في الجريدة ولم تكن امكانات الجريدة تسمح بتعيين مدير متفرغ , بينما كان ابنها (رياض) صغيرا في السن, لذا لم تجد راسمة من مفر غير تسليم رقبة الجريدة الى ابن اختها غسان زكريا, العائد من بيروت بخفي حنين, وسرعان ما اتخذ غسان مهمنة الصحافة غطاء لادارة اعماله المخابراتية وصفقات (الكوميشين) وبعض المهمات الخاصة التي كان يكلفه بها السراج والتي كان ينفذها غيان تحت غطاء انه صحافي, وكانت مهمته الى الاردن في الاردن واحدة من هذه المهمات التي تنطل على العاهل الاردني ولا على رئيس ديوانه بهجت التلهوني, وقد اعترف زكريا في كتابه بذكاء العاهل الاردني الذي اكتشف ان هذا العديل الصحافي لا بد انه جاء عمان للملمة اخبارها وحشرها في تقرير يرفعه الى نسيبه.
في عام 1957 حرك علي ابو نواردبابات باتجاه القصر في محاولة انقلابية فاشلة, قيل يومها انها مرتبطة بجمال عبد الناصر ومحركة من قبل عبد الحميد السراج, وادى فشل المحاولة الى اهتزازصورة السراج كحليف لعبد الناصر يعتمد عليه, ولم يكم امام السراج من طريقة لاستطلاع الامر عن كثب الا بتكليف عديله وجاسوسه غسان زكريا بالمهمة خاصة وانه (صحافي), والدخول الى الاردن تحت هذه الصفة لن يثير اية شبهات تذكر, تم فعلا اصدار الامر لغسان زكريا بقطع زيارته الى (جدة) والتوجه فورا الى الاردن لمقابلة الملك حسين, حمل الامر السراجي الى غسان رئيس تحرير القبس عباس الحامض, ولم تكد تمر ساعات لا ورن جرس الهاتف في غرفة غسان في فندق فيلاديلفيا بعمان.. كان على الخط رئيس الديوان بهجت التلهوني, الذي دعا (غسان) الى قصر بسمان لمقابلة الملك, وهناك لم تكن مقابلة وانما (رسالة) شفوية حملها الملك غسانا لعبد الحميد السراج... وكان الملك يعرف -من خلال اجهزته- ان الشركسي القابع امامه , عديل السراج, ليس اكثر من جاسوس في جهاز يعمل على اسقاط نظام الحكم في البلاد, وتم التعامل مع غسان -على المكشوف- بصفته هذه, ووضع تحت المراقبة ثلاثة ايام , (شمموه) فيها الهواء, وافهموه جيدا ان اية محاولة اخرى من عديله لن يكون مصيرها لا الفشل... ونقل (غسان) الرسالة الى عديله, الذي تبنى حركة (علي الحياري) لكنها ايضا باءت بالفشل وخرجت الجماهير في الشوارع تهتف للملك وتندد بالسراج!!
كان غسان يبحث لنفسه عن دور يماثل الدور الذي يلعبه الصحافي محمد حسنين هيكل في نظام عبد الناصر, لكنه فشل في اقناع السراج بانه الرجل المناسب لاداء هذا الدور, وظلت (القبس) صحيفة (قزمة) تنطق باسم جهاز الاستخبارات وتحرر في مقر الجهاز باشراف فؤاد الشايب, مسؤول الرقابة على الصحف انذاك... كان السراج يعلم ان غسان زكريا لا يصلح الا لدور مخبر صغير, ولبعض الونس في الفراش, لذا لم يطلق يده كثيرا في اي اتجاه.. كان يربطه بمن حوله من رجال ومسؤولين, ولا يعطيه من الاهمية الا ما يناسب مؤهلاته وقدراته المحدودة... كانت القبس لسان حال السراج تنقل خطبه وتغطي اخباره وتتغزل بمكارم اخلاقة!!
تناولت غادة حيدر جانبا هاما في شخصية غسان زكريا وهو جانب السمسرة ... ففي فصل بعنوان " السمسار " تقول غادة : "كانت السمسرة ولا تزال تجري في عروق غسان زكريا, الذي يرهن كل شيئ نظير المال, وكان من الطبيعي ان يستغل علاقته بعديله (السلطان الاحمر) ليحقق ثروات من خلال العمولات, وهل كان -وقتها- اصلح من غسان لتنفيذ مثل هذه الصفقات؟؟
ذات صباح سعى الى غسان مليونير امريكي من اصل سوري هو السيد (نجيب منهل) يطلب منه التوسط لدى عديله في مشروع كبير للتنقيب عن النفط في سوريا, مقابل (عمولة) سال لها لعاب غسان وزوجته واختها, كانت زوجة المليونير (هند صلاح خانكان) على معرفة قديمة باهل زوجته الاكراد وقد دلوها على غسان, ليكون واسطة العقد في تحقيق الصفقة وفي تغطية اخبارها في الصحف وتصويرها كمشروع وطني قومي يهدف الى خدمة الشعب وليس (الاثراء) على حساب الشعب.
بدأ غسان يشن حملة صحافية يلمع فيها المليونير الامريكي, فيصفه بالرجل الوطني المخلص والوقور, الصريح, الكريم, المعطاء, الذي ما ترك امريكا الى دمشق الا حبا في سواد عيني غسان وزوجته, وسطر زكريا ودبج مقالاته ومقالات في اهمية استخراج النفط السوري على يدي المليونير الامريكي-السوري جيم, لان هذا (يقوي الجيش ويسلحه لمحاربة اسرائيل) كما ورد في كتاب زكريا, فالرجل -على حد تعبير زكريا- "يملك الملايين من آبار نفطه في تكساس وهو ما كان له ان يتكبد كل هذا العناء والجهد والانفاق الهائل من اجل سعي وراء قضية خاسرة".
نجح غسان في استصدار (رخصة) للمليونير المذكور للبحث عن النفط في (قرتشوك) قرب دجلة, لكن زكريا وجد في طريقه (زكريا) آخر, يريد لنفسه حظا ونصيبا من العمولة, لانه -مثل آخرين- لم تنطل عليه مدائح زكريا في الرجل والحديث المكرور الممجوج عن الوطن والوطنية... كان ذاك هو (عبد الباقي نظام الدين) -وزير الاشغال العامة والمواصلات في حكومة صبري العسلي ... الذي حقد عليه زكريا كثيرا, حتى وجه ابنه (احسان) تهمة قبول الرشوة سيارة كاديلاك نظير ان يوقع الوزير رخصة الاستثمار, ووصف زكريا عبد الباقي نظام الدين بانه (قليل الخير) و(جشع) وكان يطمح الى اكثر من سيارة ورشوة, لكنه سرعان ما صحح هذه المعلومة واعتذر عنها في عدد لاحق من سوراقيا بعد ان هددته عائلة المذكور بالمقاضاة, فنشر اعتذارا سخيفا يقول فيه انه لم يقصد التعريض بالرجل, وان السيارة الكاديلاك مشتراة من وكالة للسيارات في دمشق وليست مهداة لابن الوزير من المليونير التكساني, اما كيف يصف غسان الرجل بالجشع ويتهمه بقلة الخير وقبول الرشوة ثم يقول انه لم يقصد الاساءة اليه فطريقة درج غسان على انتهاجها في ابتزاز الاخرين, فان قرعوا رأسه وهزوا له السوط, سارع الى الاعتذار بوقاحة قل نظيرها, ومن يتصفح (سوراقيا) يجد بين كل عدد وعدد اكثر من نموذج ومثال.
لم يكن غسان -يومها- يرضى ان يهزم امام (وزير) كان يحلم بالكوميشين, يتشارك به مع السراج, فسارع الى ارسال شقيقة زوجته الحسناء (ملك) الى مدير المخابرات, وكانت ملك -كما يعترف غسان نفسه في مروياته- عشيقة للسراج (تساكنه) - على حد وصف زكريا, وتم الاتفاق على ان تكون حصة الاثنين غسان وملك مليون ليرة سورية (كوميشين) وكانت في ذلك الوقت تعادل ثروة طائلة !!! ولكن ملك كان لها رأي آخر... كانت تريد الاستئثار بالمليون لذا سلطت (غسان الالشي) -ابن رئيس وزراء سوريا الاسبق جميل الالشي- على غسان زكريا, فافهمه ان السراج يعد له (خازوقا) وانه من الافضل له ان يهرب الى بيروت... لم تنطل اللعبة على غسان, طيرها في تقرير سري الى رئيسه عبد الحميد السراج الذي استدعى الالشي للتحقيق... ونترك غسان زكريا يكمل الرواية.
تمهل سامي جمعة, استدرت لارى سبب تطلعه المستمر في المآة الصغيرة, فوجدت ان سيارة اخرى تلحق بنا وفي مقعدها الامامي كان صهري تاج الدين الخياط, وعلى ما يبدو كا "ابو سمير" لا يريد ان تضيعنا السيارة فسائقها لم يكن يعرف اين نتجه.
لم يحاول ان يكلمني, كنا اتفرس وجهه واردد في بالي:" هذا هو اذن سامي جمعة (ابو سمير) الذي يرعب الناس, يقتل دون هوادة"... احسست بالتقيؤ, وبالم يعتصر معدتي, لم تطل رحلتنا فمن شارع عبد الرحمن الشهبندر الى شارع الروضة ... رمية حجر...
بسرعة اتجه سامي جمعة بالسيارة الى احدى البنايات, الصقها بالجدار سادا الباب علي, فطلب مني النزول منها من الطرف الايسر, دافعا بي الى اجتياز الشارع والدخول الى بناية طالما وصلتنا اخبارها في بيروت, وقرأت عنها في "صدى لبنان" و "الحياة" للشهرة التي لحقت باقبيتها ولحفلات التعذيب الطويلة التي مورست خلف جدرانها.
نزل سامي جمعة امامي, فاذا بقبوين مفتوحين امامنا, مقعدان خشبيان في وسطهما ومنضدة خشبية نخرها السوس في الزاوية, جلسنا صهري وانا على المقعد الخشبي, وبدأت اتفحص المكان بعيني, حيطان عارية وسخة, كلحت من الرطوبة, يصطدم الضوء الشحيح المنبعث من لمبة كهربائية بخيوط العنكبوت, تختلط روائح دخان السجائر مع روائح الرطوبة النتنة.
كان السكوت يهدم الاعصاب, دقائق الانتظار تمر ممضة, احسست بحبات عرق بارد ترصع جبيني, مسحتها بحركة عصبية, لحظات, سمعنا صراخا متقطعا, ساد بعده صمت بليد, فجلبة, دعسات متسارعة, واحد نزل مسرعا ودخل القبو الايسر, وآخر كان يحمل سوطا يضربه على جزمته وهو يصعد السلم, دقائق ودخل سامي جمعة علينا:"تفضلا" قال بنبرة هادئة.
لحقنا به الى مكتب في آخر الممر, كنت الاول في الدخول, وصهري خلفي, فاذا بي وجها لوجه امام عبد الحميد السراج الرجل الذي كنت رأيته مرتين: مرة في مطعم مطار المزة ومرة ثانية في فندق اكسيلسيور في بيروت.
مد لي يده مصافحا, جلسنا قبالته, بالكاد نسمع صوته وهو يعتذر لنا على اسلوب احضارنا, "فظروف عمله ضاغطة" ثم نظر الي وقال: ما هي قصتك مع غسان الالشي؟؟
رويتها له كما حدثت, ولم آت على ذكر مقابلتي له لاكرم الديري ولبرهان قصاب حسن في ثكنة الشرطة العسكرية في البرامكة, واعتقد انه فهم علي لانه رمقني بابتسامة خبيثة وقال :"اذن لم تقابلني في اي مكان؟".
"لا.... و"
لم يدعني اكمل , فكر برهات,
- بولص شمعون الشماسمشرفة منتدى العائلة
رد: فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية
الأحد مايو 20, 2012 6:37 pm
روعة يا اخ ابو هابيل على هذه
السيرة عن غسان زكريا الصحافية
يسلم قلمك
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى